للكبد وظائف وأنشطة عديدة، فهو أكبر غدة داخل الجسم البشري، وهو المصنع الهائل الذي يقوم بتصنيع وتخزين مواد حيوية هامة لا تبنى خلايا الجسم بدونها، كما يقوم بعمليات دقيقة ومنسقة لحفظ الحياة من العطب أو الدمار، وفي هذا المقال سنلقي الضوء فقط على عمليتين حيويتين للكبد تنشط آليتهما بوضوح خلال ممارسة الصيام الإسلامي وينعكس أثرهما على كل خلايا الجسم نشاطًا وعافية، وفي هذا شهادة بأن تشريع الصيام للبشر إنما كان لمنفعتهم في الدنيا والآخرة.
العملية الأولى: تجدد خلايا الجسم
اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة، فقد اقتضت هذه السنة في جسم الإنسان أن يتبدل محتوى خلاياه على الأقل كل ستة أشهر، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تعد بالأيام، والأسابيع، مع الاحتفاظ بالشكل الخارجي الجيني، وتتغير خلايا جسم الإنسان وتتبدل، فتهرم خلايا ثم تموت، وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة، هكذا باطّراد، حتى يأتي أجل الإنسان، إن عدد الخلايا التي تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125 مليون خلية(1)، وأكثر من هذا العدد يتجدد يوميٌّا في سن النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقل عدد الخلايا المتجددة مع تقدم السن، تبلغ خلايا الكبد من 200 - 300 مليار خلية تتجدد كل أربعة شهور، وتعتبر هذه الخلايا من أهم وأنشط خلايا الجسم، وتقدم أجلّ وأعظم الخدمات في تجديد وإصلاح خلايا الجسم كله، إذ تقوم بإنتاج بروتينات البلازما كلها تقريبا (من 30 - 50 جم يوميٌّا)، وتكوين الأحماض الأمينية المختلفة، بعمليات التحول الداخلي وتحويل البروتين والدهن والكربوهيدرات كل منها للآخر، وتقديمها لخلايا الجسم، حسب احتياجها، وصناعة الجلوكوز وتخزينه لحفظ تركيزه في الدم، وأكسدة الجلوكوز والأحماض الدهنية بمعدلات مرتفعة لإمداد الجسم وخلاياه بالطاقة اللازمة في البناء والتجديد (41)، إذ تحتوي كل خلية كبدية من الوحدات المولدة للطاقة (Mitochondria) انظر شكل (1) حوالي 1000 وحدة، كما تكون الخلايا الكبدية الكوليسترول، والدهون الفوسفاتية، التي تدخل في تركيب جدر الخلايا، وفي المركبات الدقيقة داخل الخلية، وفي العديد من المركبات الكيميائية الهامة، واللازمة لوظيفة الخلية، كما تقوم خلايا الكبد بصناعة إنزيمات حيوية وهامة لخلايا الجسم، كخميرة الفوسفاتاز القلوية (AIKaline Phosphatase)، والتي بدونها لا تستخدم الطاقة المتولدة من الجلوكوز والأكسجين، ولا يتم عدد كثير من عمليات الخمائر والهرمونات وتبادل الشوارد(3)، فيتأثر تجدد الخلايا وتضطرب وظائفها، كما تقدم خلايا الكبد خدمة جليلة في بناء الخلايا الجديدة، حيث تختزن في داخلها عددًا من المعادن والفيتامينات الهامة واللازمة في تجديد خلايا الجسم كالحديد والنحاس وفيتامين أ، ب2، ب12، وفيتامين د، وتقدم خلايا الكبد أيضًا أعظم الخدمات في تجديد الخلايا، حيث تزيل من الجسم المواد السامة والتي تعرقل هذا التجديد، أو حتى تدمر الخلايا نفسها، كما في مادة الأمونيا والتي تسمم خلايا المخ، وتدخل مريض تليف الكبد في غيبوبة تامة.
شكل رقم (1)
مجمع الأحماض الأمينية:
تشكل الأحماض الأمينية البنية الأساسية في الخلايا، وفي الصيام الإسلامي تتجمع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة من عملية الهدم، في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد (Amino Acid Pool)، ويحدث فيها تحول داخلي واسع النطاق، وتدخل في دورة السترات (citrate CycI)، وتتم إعادة توزيعها بعد عملية التحول الداخلي (Interconversion)، ودمجها في جزيئات أخرى، كالبيورين (Purines)، والبيريميدين، أو البروفرين (Prophyrins)، ويصنع منها كل أنواع البروتينات الخلوية، وبروتين البلازما، والهرمونات، وغير ذلك من المركبات الحيوية، انظر شكل (2)، أما أثناء التجويع أو ما يسمّى بالصوم الطبي فتتحول معظم الأحماض الأمينية القادمة من العضلات وأغلبها حمض الألانين، تتحول إلى جلوكوز الدم، وقد يستعمل جزء منها لتركيب البروتين، أو تتم أكسدته لإنتاج الطاقة بعد أن يتحول إلى أحماض أكسوجينية (Oxoacids)(4)
وبهذا التبدل والتحول الذي يحدث داخل هذه الأحماض الأمينية المتجمعة من الغذاء، وعمليات الهدم للخلايا أثناء الصيام يعاد تشكيلها ثم توزع حسب احتياجات خلايا الجسم، فيتاح بهذا لبنات جديدة للخلايا ترمم بناءها، وترفع كفاءتها الوظيفية، مما يعود على الجسم البشري بالصحة، والنماء، والعافية، وهذا لا يحدث في التجويع أو الصيام الطبي، حيث الهدم المستمر لمكونات الخلايا، وحيث الحرمان من الأحماض الأمينية الأساسية، فعندما تعود بعض اللبنات القديمة لإعادة الترميم تتداعى القوى، ويصير الجسم عرضة للأسقام، أو الهلاك، فنقص حمض أميني أساسي واحد يدخل في تركيب بروتين خاص ـ يجعل هذا البروتين لا يتكون، والأعجب من ذلك أن بقية الأحماض الأمينية التي يتكون منها هذا البروتين تتهدم وتدمر(5).
شكل (2): يبين مجمع الأحماض الأمينية وكيف تتجمع هذه الأحماض في مجمع عام وكيف تتكون منها
مركبات جديدة وكيف تتحول إلى مجمع الاستقلاب العام ومركباته.
كما أن إمداد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية (Essential Fatty Acids) في الغذاء له دور هام في تكوين الدهون الفوسفاتية، (Phospholipids) والتي مع الدهن العادي (Triacylglycerol) تدخل في تركيب البروتينات الشحمية، (Lipoprotiens) ويقوم النوع منخفض الكثافة جدٌّا منها (very low density lipoprotien) بنقل الدهون الفوسفاتية والكوليسترول من أماكن تصنيعها بالكبد، إلى جميع خلايا الجسم، حيث تدخل في تركيب جدر الخلايا الجديدة، وتكوين بعض مركباتها الهامة، ويعرقل هذه العملية الحيوية كل من:الأكل الغني جدٌّا بالدهون، والحرمان المطلق من الغذاء، كما في حالة التجويع، حيث تتجمع كميات كبيرة من الدهون في الكبد تجعله غير قادر على تصنيع الدهون الفوسفاتية والبروتين بمعدل يكفي لتصنيع البروتين الشحمي، فلا تنتقل الدهون من الكبد إلى أنحاء الجسم، لتشارك في بناء الخلايا الجديدة، وتتراكم فيه، وقد تصيبه بحالة التشمع الكبدي، (4) (Fatty Liver) فتضطرب وظائفه، وينعكس هذا بالقطع على تجدد خلاياه هو أولاً، ثم على خلايا الجسم كله. إن الصيام الإسلامي هو وحده النظام الغذائي الأمثل في تحسين الكفاءة الوظيفية للكبد، حيث يمده بالأحماض الدهنية والأمينية الأساسية، خلال وجبتي الإفطار والسحور، فتتكون لبنات البروتين، والدهون الفوسفاتية والكوليسترول وغيرها، لبناء الخلايا الجديدة، وتنظيف خلايا الكبد من الدهون التي تجمعت فيه بعد الغذاء، خلال نهار الصوم، فيستحيل بذلك أن يصاب الكبد بعطب التشمع الكبدي، أو تضطرب وظائفه، بعدم تكوين المادة الناقلة للدهون منه، وهي الدهن الشحمي منخفض الكثافة جدٌّا (VLDL) والذي يعرقل تكونها التجويع، أو كثرة الأكل الغني بالدهون كما بينَّا.
وعلى هذا يمكن أن نستنتج أن الصيام الإسلامي يمتلك دورًا فعالاً في الحفاظ على نشاط ووظائف خلايا الكبد، وبالتالي يؤثر بدرجة كبيرة في سرعة تجدد خلايا الكبد، وكل خلايا الجسد، وهو ما لا يفعله الصيام الطبي ولا الترف في الطعام الغني بالدهون.
العملية الثانية: تخليص الجسم من السموم
يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة، والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد تأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، خصوصًا في هذا العصر، الذي عمّت فيه الرفاهية مجتمعات كثيرة، وحدث وفر هائل في الأطعمة بأنواعها المختلفة، وتقدمت وسائل التقنية في تحسينها وتهيئتها وإغراء الناس بها، فانكب الناس يلتهمونها بنهم، مما كان له أكبر الأثر في إحداث الخلل لكثير من العمليات الحيوية داخل خلايا الجسم، وظهر ـ نتيجة لذلك ـ ما يسمي بأمراض الحضارة: كالسمنة، وتصلب الشرايين، وارتفاع الضغط الدموي، وجلطات القلب والمخ والرئة، ومرض السرطان، وأمراض الحساسية والمناعة. وتذكر المراجع الطبي (5) أن جميع الأطعمة تقريبًا في هذا الزمان تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة، وهذه المواد تضاف للطعام أثناء إعداده، أو حفظه: كالنكهات، والألوان، ومضادات الأكسدة، والمواد الحافظة، أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان: كمنشطات النمو، والمضادات الحيوية، والمخصبات، أو مشتقاتها، وتحتوي بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة، كما أن عددًا كبيرًا من الأطعمة تحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة، التي تفرز سمومها فيها وتعرضها للتلوث(4)، هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء، من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضابط، إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة، التي تقطن في أجسامنا بأعداد الوصف والحصر، وأخيرًا مخلفات الاحتراق الداخلي للخلايا، والتي تسبح في الدم، كغاز ثاني أكسيد الكربون، واليوريا، والكرياتينين، والأمونيا، والكبريتات، وحمض اليوريك.. إلخ، ومخلفات الغذاء المهضوم، والغازات السامة التي تنتج من تخمره وتعفنه، مثل الأندول والسكاتول والفينول(1).
كل هذه السموم جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ للجسم منها فَرَجًا ومخرجًا، فيقوم الكبد ـ وهو الجهاز الرئيس في تنظيف الجسم من السموم ـ بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة، بل قد يحولها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا، والكرياتين، وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهدًا وطاقة محدودة، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية كتقدم السن فيترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، خصوصًا في المخازن الدهنية شكل(3).
شكل (3): خلايا دهنية ممتلئة بالدهون حيث تخزن السموم
وتذكر المراجع الطبية(4)، أن الكبد يقوم بتحويل مجموعة واسعة من الجزيئات السُّمِّيَّة، والتي غالبًا ما تقبل الذوبان في الشحوم، إلى جزيئات تذوب في الماء غير سامة، يمكن أن يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي، أو تخرج عن طريق الكلى.
وفي الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد، حتى تؤكسد، وينتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سُمِّيَّتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد شكل(4). كما أن هذه الدهون المتجمعة أثناء الصيام في الكبد، والقادمة من مخازنها المختلفة، يساعد ما فيها من الكوليسترول على التحكم وزيادة إنتاج مركبات الصفراء في الكبد، والتي بدورها تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة، والتخلص منها مع البراز. ويؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية، بأكسدته للأحماض الدهنية، فيخلص هذه الخلايا من مخزونها من الدهون، وبالتالي تنشط هذه الخلايا، وتقوم بدورها خير قيام، فتعادل كثيرًا من المواد السامة، بإضافة حمض الكبريت أو حمض الجلوكونيك، حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم.
شكل (4): تحلل الدهون وتحرر الطاقة منها حيث يتخلص الجسم من السموم المختزنة بها
كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة، كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم ببلعمة جزيئاتها، بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا (كوبفر)، والتي تبطن الجيوب الكبدية، ويتم إفرازها مع الصفراء.
وأثناء الصيام يكون نشاط هذه الخلايا في أعلى معدل كفاءتها، للقيام بوظائفها، فتقوم بالتهام البكتريا، بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة(5). وبما أن عمليات الهدم (Catabolism) في الكبد أثناء الصيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي، فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضًا نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سُمِّيَّة كثير من المواد السامة، وهكذا يعتبر الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة. وصدق الله العليم الخبير القائل: }وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{(6) أي فضيلة الصوم وفوائده.
يقول الدكتور (ماك فادون) وهو من الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره: (إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضًا، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم، فتجعله كالمريض وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل)