♥♥ عـــاطـــفـــة ♥ ♥ بقلمي

تأخذ انفاس الصيف بالضمور ويلفظ الخريف اوراقه الذابلة ، وتلمح في صفرتها همسات باكية ، ذكرتني بقرار عودتي لمدينتي البصرة بعدما خفت أن أعود لينفتل معه حزن طالما دفنته في فلوات تأملي ، لكني عدت رغبة لتصفية حساب الأحزان لاستقبل ضوء الفرح بعين ليس فيها أثر للحزن ، ما أجمل أن تلق شيئا من آثار طفولتك الذاوية ، بمجرد أن أتصور منزلي القديم وضجيج الصبا ، تبدأ ضربات قلبي تزداد كإنها دقات ناقوس قديم يجلجل في سكون الانتظار ، أخذت اتذكر كريم ومحمد وجلال اصدقاء الطفولة الذين إلتهمتهم فكوك الساعات الآفلة ، حتى شناشيل البصرة التي كنا نرقص قريبا منها لا زلت اتذكرها واتذكر رائحة شجرتنا الوارفة في عمق منزلنا ، ترى هل ما زالت الحياة تنبض وتشع هناك ؟لكل منا ذكريات على التقادم لا تضارعها أفانين من الجمال ، شعور بدأ يتسرب إلى أعماقي كسفينة مثقوب قعرها وأخذت تغرق وتغرق في أعماق الذكريات ، لم أكن اتمنى العودة ، لكن حنيني يدوي بداخلي ، قبل 40 عام فتحت عيوني هناك ، تركتها قبل عشرين سنة ، فطغت معالم الغربة على تفاريج سعادتي ، وبين تضارب الأشواق والذكريات والحنين ، تذكرت " مريم " لكني حاولت أن لا أفكر فيها كي لا أوقظ الحزن بداخلي الذي غط في سبات عميق ، وظلت مخالب الفراق هي التي تأسو جراحي ، شهدت فلول النهار ، توقفت الحافلة .. لم يكن الجو حافلا ، سوى " محل الحاج مهدي " الذي تحول إلى عمارة عقارات ، اما أزقة المحلة القديمة التي اقطنها سابقاً ، مازالت كما هي تقريباً ،كنت ار نفسي عابثة هناك فما من أحد وقف ينتظرني هناك ، وتمنيت لو كريم ومحمد وجلال علموا بمجيئي واستقبلوني ، او حبيبة الصبا مريم العالقة في جوارح الذاكرة ، لكن إين هم الآن ؟؟ مشيت ولم إلمح سوى ظلي الذي ترفق بحالي وأصبح أنيس وحدتي ، هذه المرة وجدت شيئاً من الماضي سقط فجأة من سماء النسيان ، الحاج مهدي واقفا امام باب منزله ، كانت ذكرياتي تصطخب وترسل رعودا لمسافات قلبي فأتوه في نفق الحنين ... وأستفيق واسلم على الحاج مهدي ، ما تصورته حدث بالفعل إذ انه لم يعرفني ، ، لعل السبب انقطاع التيار التيار الكهربائي والظلمة التي تعم الارجاء ، او الغربة التي اذهبت بضاضة إهابي ، ترى هل تفقد الذكريات ذاكرتها ؟؟؟ وهل يمكن لخفقات قلب صامتة أن تعود بالذكريات الجميلة ، حنيني عميق وطويل كأشجار الصفصاف والموز لمشاهدة اصدقائي والاحباب الين فارقتهم وانقطعت اخبارهم بسبب الظروف التي لمت بالعراق .. أما مريم فهي جرحاَ طريا ما زال يؤلمني كلما حاوت نسيانها ،لا اخفي ان احلامي تداعب عوالم خيالي ، ارغب ان اراها لثانية !! سرت في اروقة مدينتي وأردت أن اهتف واقرع ابواب بيوت اصدقائي وأقُبل إيديهم شوقا ، كان كلما تخطفتني اشباح الغربة يصطحبني الظلام الى تمثال بدر شاكر السياب .. وجدتني أثب هناك دون أن اعلم كيف قادتني اقدامي ، هناك نسيت التعب ونسيت الاحزان ، أخذت اتقلب مع افكاري كما تتقلب النسمات العابرة التي تجر اذيالها مع المساء وتكنس حفيف أوراق الشجر ، حنيني يعود بي قرب باب بيت صديقي كريم ، فتح الباب رأيته كما هو لم تتغير منه سوى القليل فالشيب تسلل الى شعره مثلما تسلل الى شعري ، عانقته بشدة وقبلته وهو مصدوم من هول ما يراه ، سألني عن غيابي وعن امكانية عودتي ، لمدينتي التي عكفت عنها طيلة عشرين عام ، أخبرته قائلاً أن حياتي وظروفي حاليا لا تسمح ان اتواجد هنا ولكن قد تكون عودتي ممكنة ان شعرت بالجرح قد زال ، ولكن هيهات تزول الجراح ، فرد .. انها مريم إليس كذلك ، كثيرا ما خفت ترديد هذا الاسم لكي لا تفوح منه عبير الذكرى وتخنقني بمرارتها ، سماعي لذلك الاسم اقحمني مرة اخرى بذكريات ظننت انها غابت ، لكنها تأججت واتقدت وظلت متقدة طيلة ايام حياتي ، يا كريم ..... أن من يحب إنسانة مثل مريم ، جميلة كقدنيل من الماس .. شبيهه برذاذ متساقط فوق الأودية والخمائل يندي الشجر ويرطب الزهر ، ما اعضل نسيانها ، او الكف عن حبها .. لكنها فارقت الحياة واجبرتني أن أنقض حياتي واهرب بعيدا ، عدت اليوم كي انشر فوق ثراها شيئا من حنيني، تعلم اني كنت اتمنى ان اراها وهي تنفض غبار السنين ، لعلها اوهام لكنك تعلم ان لمس الأوهام أجمل على القلوب من لمس الحقيقة ، ذهبنا معا إلى مثواها الابدي ، لعل مشاهدتي لقبرها جعل دموعي ترترق وانا اقرأ اسمها ، وعبثا حاولت كتمان حزني وحنيني ، فالشوق حين يعوج به الحنين يكون مخنق لدرجة تشعرك انك تحتضر دون أن يلي ذلك موت ، كنت اظن إني سوف أقطف أخر ورقة من عذابي واكتب عليها أحبك وارميها فوق قبرها ، ولم أكن اعلم أن حنيني وشوقي سوف ينبجس من بين عيوني .. بكيت وبكت معي النجوم والورود والإشجار ... فهنا دفن قلبي قبل عشرين عام ، عدت اخبرها بأني نفذت وعدي ، بأن اطلقت على ابنتي اسم عاطفة كما اتفقنا ايام خطوبتنا .



بقلمي