يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
مطلب من المطالب العلية , هو أحق ما صرفت فيه نفائس الأنفاس, وأعلى ما تنافس فيه الفطناء الأكياس ,لهذا الشيء فليعمل العاملون ,وإليه فليتسابق المتسابقون ,وعليه فليتنافس المتنافسون ,وهو خير ما تطلع إليه المتطلعون , هذا الشيء فيه ما لا عين رأت ,ولا أذن سمعت ,ولا خطر على قلب بشر ، كلكم حتما علم هذا الشيء ,ألا وهو الجنة.
الجنة هي دار النعيم الأبدي ,والفوز السرمدي ,التي أعدها سبحانه وتعالى لعباده الصالحين ,فالحسرة كل الحسرة أن تضيع لحظة من الوقت الشريف , والعمر النفيس , في غير الاشتغال بالعمل الذي يوصل إلى هذه الدار ؛ ولكن قبل أن نتنقل في أرجائها بالخيال والكلمات , وقبل أن نشرع في الحديث عما أعده الله فيها لعباده ,وقبل أن نتكلم عن كنه تلك الحياة الطيبة السرمدية , نجيب عن سؤال عقدي يتعلق بها :
هل الجنة معدة الآن لأهلها ؟
أهل السنة على أن الجنة وكذلك النار مخلوقتان موجودتان الآن , لكن أنكرت طائفة من أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم وجودهما الآن ، وقالوا بل ينشئهما الله يوم القيامة , قالوا لأن خلق الله للجنة والنار قبل يوم القيامة عبث!! , فحكّموا عقولهم على نصوص الكتاب والسنة ، وردوا النصوص الدالة على ذلك من الكتاب والسنة ، بل وردوا النظر الصحيح ! , فمن كتاب الله عز وجل قوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )وقوله تعالى (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله )وقوله تعالى (ولقد رآه نزلة أخرى ,عند سدرة المنتهى,عندها جنة المأوى ) ومن السنة في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء .. وفي آخره (ثم انطلق بي جبرائيل ,حتى أتى سدرة المنتهى ,فغشيها ألوان لا أدري ما هي , قال ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ ,وإذا ترابها المسك)، وقال سبحانه عن النار:{ فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين}وقال سبحانه: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا} وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة.
فالجنة معدة الآن للمتقين ,والنار معدة الآن للعصاة و الكافرين ,فها هي نصوص الكتاب والسنة كما سمعتم تثبت ذلك وترد على من أنكر وجودهما الآن ؛ وأما النظر الصحيح : فإن النفس البشرية مجبولة على الهمة والنشاط إذا علمت أن جائزتها ومكافأتها قد أُعدت لها , فإن ذلك يكون أدعى للعمل والهمة والنشاط , وأي جائزة هي ؟! إنها سلعة الله الغالية , إنها الجنة , الجنة دار السلام ودار النعيم الأبدي جعلها الله تبارك وتعالى جزاء وفاقا ، ومكافأة ونعيما مقيما لمن أطاعه ولم يعصه ,وعمل بأمره ونهيه ,قال عز من قائل {والله يدعو إلى دار السلام } ، وقال سبحانه {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار }،
وقال تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا).
فإن سألتَ عن وصف هذه الدار، فهاك وصفها:
بناؤها من الذهب والفضة , وطينتها المسك الخالص ,وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران .
وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن بناء الجنة فقال :
(لبِنَة من فضة ولبنة من ذهب , ومَلاطُها - أي طينتها- الأُذفَر -أي الخالص- وحصباؤها -أي حصاها- اللؤلؤ والياقوت , وتربتها الزعفران , لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم )؛
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر , ذخرا, بَلْه ما أطلعكم الله عليه ) .
عباد الله :الذي هذا وصفه ، هو أولى ما شمر إليه العلماء الأكياس ,وأحرى ما زاحم عليه عقلاء الناس .
أما إن سألت عن نعيمها ولذاتها فقد جاء في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - قال عليه الصلاة والسلام : (يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا ,من أهل الجنة ,فيصبغ في الجنة – أي يغمس- صبغة ,فيُقال له :يا ابن آدم!هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ,ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط )، وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم وغيره يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سأل موسى ربه ,ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال :هو رجل يجيئ بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة فيقال له :ادخل الجنة .فيقول : أي ربّ :كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخَذاتِهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا ؟
فيقول :رضيتُ ربّ ,فيقول :لك ذلك ومثلُه ومثلُه ومثله ومثله ,
فقال في الخامسة :رضيتُ ربّ,فيقول هذا لك وعشرة أمثاله, ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك , فيقول:رضيتُ ربّ ؛
قال : (أي موسى عليه الصلاة والسلام ): فأعلاهم منزلة؟
قال : أولئك الذين أردتُ –أي اخترت واصطفيت- غرست ُكرامتهم بيدي , وختمت عليها , فلم تر عينٌ ، ولم تسمع أذنٌ ، ولم يخطر على قلب بشر )
وان شاء الله هذا الكلام له صلة بالجنة واني اخترت هذا الموضوع لما فيه من فائدة.