بسم الله الرحمن الرحيم
شرح المنظومة البيقونية
شرح المنظومة البيقونية
متن المنظومة البيقونية
مقدمة في علم مصطلح الحديث
شرح المنظومة البيقونية
متن المنظومة البيقونية
بسم الله الرحمن الرحيم
أبدأُ بالحمدِ مُصَلِّياً على ** مُحمَّدٍ خَيِر نبيْ أُرسِلا
وذِي مِنَ أقسَامِ الحديث عدَّة ** وكُلُّ واحدٍ أتى وحدَّه
أوَّلُها (الصحيحُ) وهوَ ما اتَّصَلْ ** إسنادُهُ ولْم يُشَذّ أو يُعلّ
يَرْويهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ ** مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ
وَ(الَحسَنُ) الَمعْرُوفُ طُرْقاً وغَدَتْ ** رِجَالُهُ لا كالصّحيحِ اشْتَهَرَتْ
وكُلُّ ما عَنْ رُتبةِ الُحسْنِ قَصْر ** فَهْوَ (الضعيفُ) وهوَ أقْسَاماً كُثُرْ
وما أُضيفَ للنبي (الَمرْفوعُ) ** وما لتَابِعٍ هُوَ (المقْطوعُ)
وَ(الُمسْنَدُ) الُمتَّصِلُ الإسنادِ مِنْ ** رَاويهِ حتَّى الُمصْطفى ولْم يَبِنْ
ومَا بِسَمْعِ كُلِّ رَاوٍ يَتَّصِلْ ** إسْنَادُهُ للمُصْطَفى فَـ(الُمتَّصِلْ)
(مُسَلْسَلٌ) قُلْ مَا عَلَى وَصْفٍ أتَى ** مِثْلُ أمَا والله أنْبأنِي الفَتى
كذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيهِ قائِماً ** أوْ بَعْدَ أنْ حَدَّثَنِي تَبَسَّمَا
(عَزيزٌ) مَروِيُّ اثنَيِن أوْ ثَلاثهْ ** (مَشْهورٌ) مَرْوِيُّ فَوْقَ ما ثَلاثَهْ
(مَعَنْعَنٌ) كَعَن سَعيدٍ عَنْ كَرَمْ ** (وَمُبهَمٌ) مَا فيهِ رَاوٍ لْم يُسَمْ
وكُلُّ مَا قَلَّت رِجَالُهُ (عَلا) ** وضِدُّهُ ذَاكَ الذِي قَدْ (نَزَلا)
ومَا أضَفْتَهُ إلى الأصْحَابِ مِنْ ** قَوْلٍ وفعْلٍ فهْوَ (مَوْقُوفٌ) زُكِنْ
(وَمُرْسلٌ) مِنهُ الصَّحَابُّي سَقَطْ ** وقُلْ (غَريبٌ) ما رَوَى رَاوٍ فَقَطْ
وكلُّ مَا لْم يَتَّصِلْ بِحَالِ ** إسْنَادُهُ (مُنْقَطِعُ) الأوْصَالِ
(والُمعْضَلُ) السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ ** ومَا أتى (مُدَلَّساً) نَوعَانِ
الأوَّل الإسْقاطُ للشَّيخِ وأنْ ** يَنْقُلَ مَّمنْ فَوْقَهُ بعَنْ وأنْ
والثَّانِ لا يُسْقِطُهُ لكنْ يَصِفْ ** أوْصَافَهُ بما بهِ لا يَنْعَرِفْ
ومَا يَخالِفُ ثِقةٌ فيهِ الَملا ** فـ(الشَّاذُّ) و(الَمقْلوبُ) قِسْمَانِ تَلا
إبْدَالُ راوٍ ما بِرَاوٍ قِسْمُ ** وقَلْبُ إسْنَادٍ لمتنٍ قِسْمُ
وَ(الفَرَدُ) ما قَيَّدْتَهُ بثِقَةِ ** أوْ جْمعٍ أوْ قَصِر على روايةِ
ومَا بعِلَّةٍ غُمُوضٍ أوْ خَفَا ** (مُعَلَّلٌ) عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفَا
وذُو اخْتِلافِ سنَدٍ أو مَتْنِ ** (مُضْطربٌ) عِنْدَ أهْلِ الفَنِّ
وَ(الُمدْرَجاتُ) في الحديثِ ما أتَتْ ** مِنْ بَعْضِ ألفاظِ الرُّوَاةِ اتَّصَلَتْ
ومَا رَوى كلُّ قَرِينٍ عنْ أخهْ ** (مُدَبَّجٌ) فَاعْرِفْهُ حَقًّا وانْتَخِهْ
مُتَّفِقٌ لَفْظاً وخطاً (مُتَّفقْ) ** وضِدُّهُ فيما ذَكَرْنَا (الُمفْتِرقْ)
(مُؤْتَلِفٌ) مُتَّفِقُ الخطِّ فَقَطْ ** وضِدُّهُ (مُختَلِفٌ) فَاخْشَ الغَلَطْ
(والُمنْكَرُ) الفَردُ بهِ رَاوٍ غَدَا ** تَعْدِيلُهُ لا يْحمِلُ التَّفَرُّدَا
(مَتُروكُهُ) مَا وَاحِدٌ بهِ انفَردْ ** وأجَمعُوا لضَعْفِه فَهُوَ كَرَدّ
والكذِبُ الُمخْتَلَقُ المصنُوعُ ** علَى النَّبيِّ فذَلِكَ (الموْضُوعُ)
وقَدْ أتَتْ كالَجوْهَرِ المكْنُونِ ** سَمَّيْتُهَا: مَنْظُومَةَ البَيْقُوني
فَوْقَ الثَّلاثيَن بأرْبَعٍ أتَتْ ** أقْسامُهَا ثمَّ بخيٍر خُتِمَتْ
مقدمة في علم مصطلح الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فهذه مقدمة في علم مصطلح الحديث:
المصطلح: علم يعرف به أحوال الراوي والمروي من حيث القبول والرد.
وفائدة علم المصطلح: هو تنقية الأدلة الحديثية وتخليصها مما يشوبها من: ضعيف وغيره، ليتمكن من الاستدلال بها لأن المستدل بالسنة يحتاج إلى أمرين هما:
1 - ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
2 - ثبوت دلالتها على الحكم.
فتكون العناية بالسنة النبوية أمراً مهماً، لأنه ينبني عليها أمرٌ مهم وهو ما كلف الله به العباد من عقائد وعبادات وأخلاق وغير ذلك.
وثبوت السنة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يختص بالحديث، لأن القرآن نُقل إلينا نقلاً متواتراً قطعياً، لفظاً ومعنى، ونقله الأصاغر عن الأكابر فلا يحتاج إلى البحث عن ثبوته.
ثم اعلم أن علم الحديث ينقسم إلى قسمين:
1 - علم الحديث رواية.
2 - علم الحديث دراية.
فعلم الحديث رواية يبحث عما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم من أقواله وأفعاله وأحواله. ويبحث فيما يُنقل لا في النقل.
مثاله: إذا جاءنا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم فإننا نبحث فيه هل هو قول أو فعل أو حال؟
وهل يدل على كذا أو لا يدل؟
فهذا هو علم الحديث رواية، وموضوعه البحث في ذات النبي صلى الله عليه وسلّم وما يصدر عن هذه الذات من أقوال وأفعال وأحوال، ومن الأفعال الإقرار، فإنه يعتبر فعلاً، وأما الأحوال فهي صفاته كالطول والقِصَر واللون، والغضب والفرح وما أشبه ذلك.
أما علم الحديث دراية فهو: علم يُبحث فيه عن أحوال الراوي والمروي من حيث القبول والرد.
مثاله: إذا وجدنا راوياً فإنا نبحث هل هذا الراوي مقبول أم مردود؟
أما المروي فإنه يُبحث فيه ما هو المقبول منه وما هو المردود؟
وبهذا نعرف أن قبول الراوي لا يستلزم قبول المروي؛ لأن السند قد يكون رجاله ثقاةً عدولاً، لكن قد يكون المتن شاذًّا أو معللاً فحينئذ لا نقبله. كما أنه أحياناً لا يكون رجال السند يصِلون إلى حد القبول والثقة، ولكن الحديث نفسه يكون مقبولاً وذلك لأن له شواهد من الكتاب والسنة، أو قواعد الشريعة تؤيده.
إذن فائدة علم مصطلح الحديث هو: معرفة ما يُقبل وما يردّ من الحديث.
وهذا مهمّ بحد ذاته؛ لأن الأحكام الشرعية مبنية على ثبوت الدليل وعدمه، وصحته وضعفه.
شرح المنظومة البيقونية
قال المؤلف رحمه الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
البسملة آية من كتاب الله عز وجل، فهي من كلام الله تعالى، يُبتدأ بها في كل سورة من سور القرآن الكريم؛ إلا سورة (براءة) فإنها لا تُبدأ بالبسملة، اتباعاً للصحابة رضوان الله عليهم، ولو أن البسملة كانت قد نزلت في أول هذه السورة لكانت محفوظة كما حفظت في باقي السور، ولكنها لم تنزل على النبي صلى الله عليه وسلّم، ولكن الصحابة أشكل عليهم، هل سورة (براءة) من الأنفال أم أنها سورة مستقلة؟ فوضعوا فاصلاً بينهما دون البسملة.
والبسملة فيها جار ومجرور، ومضاف إليه، وصفة.
فالجار والمجرور هو (بسم).
والمضاف إليه هو لفظ الجلالة (الله).
والصفة هي (الرحمن الرحيم).
وكل جارّ ومجرور لابد له من التعلق إما بفعل كقام، أو معناه كاسم الفاعل، أو اسم المفعول مثلاً.
فالبسملة متعلقة بمحذوف فما هو هذا المحذوف؟
اختلف النحويون في تقدير هذا المحذوف، لكن أحسن ما قيل فيه وهو الصحيح: أن المحذوف فعلٌ متأخرٌ مناسب للمقام.
مثاله: إذا قال رجل بسم الله، وهو يريد أن يقرأ النظم فإن التقدير يكون: بسم الله اقرأ، وإذا كان الناظم هو الذي قال: بسم الله فإن التقدير يكون: بسم الله أنظم.
ولماذا قدّرناه فعلاً ولم نقدّره اسم فاعلٍ مثلاً؟
نقول: قدّرناه فعلاً، لأن الأصل في العمل الأفعال، ولهذا يعمل الفعل بدون شرط، وما سواه من العوامل الإسمية فإنها تحتاج إلى شرط.
ولماذا قدرناه متأخراً؟
نقول قدّرناه متأخراً لوجهين:
1 - التيمُّن بالبداءة باسم الله تعالى؛ ليكون اسم الله تعالى هو المقدّم، وحق له أن يُقدّم.
2 - لإفادة الحصر؛ وذلك لأن تأخير العامل يفيد الحصر، فإن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. فإذا قلت: بسم الله اقرأ، تعيَّن أنك تقرأ باسم الله لا باسم غيره.
ونحن قدرناه مناسباً للمقام لأنه أدل على المقصود، ولأنه لا يخطر في ذهن المبسمل إلا هذا التقدير.
مثاله: لو أنك سألت الرجل الذي قال عند الوضوء بسم الله عن التقدير في قوله: بسم الله، لقال: بسم الله أتوضأ.
ولو قال قائل: أنا أُريد أن أُقدّر المتعلق بسم الله أبتدئ.
فإننا نقول: لا بأس بذلك، لكن أبتدئ: فعل عام يشمل ابتداءك بالأكل والوضوء والنظم، وكما قلنا فإن هذا التقدير لا يتبادر إلى ذهن المبسمل.
أما اسم فيقولون: إنه مشتق من السمو، وهو العلو.
وقيل: من السمة وهي العلامة.
والاسم مهما كان اشتقاقه فإنه يُراد به هنا كل اسم من أسماء الله الحسنى، أي أنه لا يُراد به اسم واحد بعينه مع أنه مفرد؛ لأن القاعدة: أن المفرد المضاف يفيد العموم، فبذلك يلزم من قولنا: بسم الله، أن يكون المعنى: بكل اسم من أسماء الله الحسنى. ولهذا تجد القائل: بسم الله، لا يخطر بباله اسم معين كالرحمن والرحيم والغفور والودود والشكور ونحوها، بل هو يريد العموم ويدل على ذلك، أي على أن المفرد المضاف للعموم قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. ولو كان المراد نعمة واحدة لما قال {لاَ تُحْصُوهَا}. إذاً فالمعنى ابتدىء بكل اسم من أسماء الله عز وجل.
والباء في قوله: بسم الله أهي للاستعانة أم للمصاحبة؟
هناك من قال: إنها للاستعانة.
ومنهم من قال: إنها للمصاحبة.
وممن قال إنها للمصاحبة؛ الزمخشري صاحب الشكاف وهو معتزلي من المعتزلة، وكتابه الكشاف فيه اعتزاليات كثيرة قد لا يستطيع أن يعرفها كل إنسان، حتى قال البلقيني: أخرجت من الكشاف اعتزاليات بالمناقيش. وهذا يدل على أنها خفية.
والزمخشري رجَّح أن الباء للمصاحبة، مع أن الظاهر أنها للاستعانة! لكنه رجّح المصاحبة؛ لأن المعتزلة يرون أن الإنسان مستقلٌّ بعمله فإذا كان مستقلاً بعمله فإنه لا يحتاج للاستعانة.
لكن لا شك أن المراد بالباء هو: الاستعانة التي تصاحب كل الفعل، فهي في الأصل للاستعانة وهي مصاحبة للإنسان من أول الفعل إلى آخره، وقد تفيد معنى آخراً وهو التبرك إذا لم نحمل التبرك على الاستعانة، ونقول كل مستعين بشيء فإنه متبرك به.
الله: لفظ الجلالة علمٌ على الذات العلية لا يسمى به غيره، وهو مشتق من الألوهية، وأصله إله لكن حذفت الهمزة، وعُوض عنها بـ(أل) فصارت (الله).
وقيل: أصله الإله وأنَّ (أل) موجودة في بنائه من الأصل وحُذفت الهمزة للتخفيف، كما حذفت من الناس وأصلها (الأُناس) وكما حُذفت الهمزة من (خير وشر) وأصلها أخير وأشر.
ومعنى الله: مأخوذة من الألوهية وهي التعبد بحب وتعظيم، يقال: ألهَ إليه أي: اشتاق إليه، وأحبه، وأناب إليه، وعظمه.
فهي مشتقة من الألوهية، وهي المحبة والتعظيم.
وعليه فيكون إله بمعنى مألوه، أي: معبود.
وهل فِعَال تأتي بمعنى مفعول؟
نقول: نعم؛ مثل فراش بمعنى مفروش، وبناء بمعنى مبنوء. وغراس بمعنى مغروس.
وأما الرحمن: فهو نعت للفظ الجلالة، وهو أيضاً اسم من أسماء الله تعالى يدل على الرحمة، وجميع الذين حدوا الرحمة حدوها بآثارها فمثلاً: أنا أرحم الصغير فما هو معنى أرحم هل هو العظف أو هو الرفق به.
الجواب: لا؛ لأن العطف من آثار الرحمة، وكذلك الرفق به من آثار الرحمة.
فالرحمة هي الرحمة! فلا تستطيع أن تعرِّفها أو تحددها بأوضح من لفظها.
فنقول إن الرحمة معلومة المعنى، ومجهولة الكيفية بالنسبة لله عز وجل، ولكنها معلومة الاثار، فالرحمن اسم من أسماء الله تعالى يدل على صفة الرحمة.
وأما الرحيم: فهو اسم متضمن للرحمة.
وهل الرحيم بمعنى الرحمن، أم أنه يختلف؟
قال بعض العلماء: إنه بمعنى الرحمن، وعلى هذا فيكون مؤكداً لا كلاماً مستقلاً، ولكن بعض العلماء قال: إن المعنى يختلف؛ ولا يمكن أن نقول إنه بمعنى الرحمن لوجهين:
1 - أن الأصل في الكلام التأسيس لا التوكيد، يعني أنه إذا قال لنا شخص إن هذه الكلمة مؤكدة لما قبلها، فإننا نقول له إن الأصل أنها كلمة مستقلة، تفيد معنى غير الأول، وذلك لأن الأصل في التوكيد الزيادة، والأصل في الكلام عدم الزيادة.
2 - اختلاف بناية الكلمة الأولى، وهي الرحمن على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل، والقاعدة في اللغة العربية: أن اختلاف المبنى يدلُّ على اختلاف المعنى.
إذاً لابد أنه مختلف، فما وجه الخلاف؟
قال بعض العلماء: إن الرحمن يدل على الرحمة العامة، والرحيم يدل على الرحمة الخاصة، لأن رحمة الله تعالى نوعان:
1 - رحمة عامة؛ وهي لجميع الخلق.
2 - رحمة خاصة؛ وهي للمؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
وبعضهم قال: الرحمن يدل على الصفة، والرحيم يدل على الفعل، فمعنى الرحمن يعني ذو الرحمة الواسعة، والمراد بالرحيم إيصال الرحمة إلى المرحوم، فيكون الرحمن ملاحظاً فيه الوصف، والرحيم ملاحظاً فيه الفعل.
والقول الأقرب عندي هو: القول الثاني وهو أن الرحمن يدل على الصفة، والرحيم يدل على الفعل.
قال المؤلف رحمه الله:
أبدأُ بالحمدِ مُصَلِّياً على ** محمدٍ خَيِر نبي أُرسلا
قوله: أبدأ بالحمد: يوحي بأنه لم يذكر البسملة، فإنه لو بدأ بالبسملة؛ لكانت البسملة هي الأولى، ولذلك يشك الإنسان هل بدأ المؤلف بالبسملة أم لا؟ لكن الشارح ذكر أن المؤلف بدأ النظم بالبسملة، وبناء على هذا تكون البداءة هنا نسبية أي: بالنسبة للدخول في موضوع الكتاب أو صلب الكتاب.
وقوله بالحمد مصلياً: نصَبَ مصلياً على أنه حال من الضمير في أبدأ، والتقدير حال كوني مصلياً.
ومعنى الحمد كما قال العلماء: هو وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً، فإن وصفَهُ بالكمال لا محبة ولا تعظيماً، ولكن خوفاً ورهبة سُمي ذلك مدحاً لا حمداً، فالحمد لابد أن يكون مقروناً بمحبة المحمود وتعظيمه.
وقول المؤلف بالحمد: لم يذكر المحمود، ولكنه معلومٌ بقرينة الحال، لأن المؤلف مسلمٌ؛ فالحمد يقصد به حمد الله سبحانه وتعالى.
ومعنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم هو: طلب الثناء عليه من الله تعالى، وهذا ما إذا وقعت الصلاة من البشر، أما إذا وقعت من الله تعالى فمعناها ثناء الله تعالى عليه في الملأ الأعلى، وهذا هو قول أبي العالية، وأما من قال إن الصلاة من الله تعالى تعني الرحمة، فإن هذا القول ضعيفٌ، يضعّفُه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]. ولو كانت الصلاة بمعنى الرحمة، لكان معنى الاية أي: أولئك عليهم رحماتٌ من ربهم ورحمة، وهذا لا يستقيم! والأصل في الكلام التأسيس؛ فإذا قلنا إن المعنى أي: رحمات من ربهم ورحمة، صار عطف مماثل على مماثل.
فالصحيح هو: القول الأول وهو أن صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
وقوله محمد خير نبي أُرسلا: محمد: هو اسمٌ من أسماء النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكر الله تعالى اسمين من أسماء النبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم وهما:
أحمد.
ومحمد.
أما أحمد: فقد ذكره نقلاً عن عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد اختار عيسى ذلك؛ إما لأنه لم يُوح إليه إلا بذلك، وإما لأنه يدل على التفضيل، فإن أحمد اسم تفضيل في الأصل، كما تقول: فلان أحمد الناس، فخاطب بني إسرائيل ليبين كمالَهُ.
أما محمد فهو اسم مفعول من حمده، ولكن الأقرب أن الله تعالى أوحى إليه بذلك لسببين هما:
1 - لكي يبين لبني إسرائيل أن النبي صلى الله عليه وسلّم هو أحمدُ الناس وأفضلهم.
2 - لكي يبتلي بني إسرائيل ويمتحنهم، وذلك لأن النصارى قالوا: إن الذي بشرنا به عيسى هو أحمد، والذي جاء للعرب هو محمد، وأحمد غير محمد، فإن أحمد لم يأتِ بعدُ، وهؤلاء قال الله فيهم {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}. [آل عمران: 7].
ولكن نقول لهم: إن قولكم أنه لم يأتِ بعدُ؛ كذب لأن الله تعالى قال في نفس الآية {فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}. [الصف: 6]. و(جاء) فعلٌ ماضي، يعني أن أحمد جاء، ولا نعلم أن أحداً جاء بعد عيسى إلا محمد صلى الله عليه وسلّم.
وبين محمد وأحمد فرق في الصيغة والمعنى:
أما في الصيغة: فمحمد: اسم مفعول، وأحمد: اسم تفضيل.
أما الفرق بينهما في المعنى:
ففي محمد: يكون الفعل واقعاً من الناس.
أي: أن الناس يحمدونه.
وفي أحمد: يكون الفعل واقعاً منه، يعني أنه صلى الله عليه وسلّم أحمدُ الناس لله تعالى، يكون واقعاً عليه يعني أنه هو أحقُ الناس أن يُحمد.
فيكون محمدٌ حُمدَ بالفعل.
وأحمد أي كان حمده على وجه يستحقه؛ لأنه أحقُّ الناس أن يُحمد، ولعل هذا هو السر في أن الله تعالى ألهم عيسى أن يقول: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6]. حتى يبين لبني إسرائيل أنه أحمدُ الناس لله تعالى، وأنه أحقُّ الناس بأن يُحمد.
وقوله خير نبي أرسلا: جمع المؤلف هنا بين النبوة والرسالة، لأن النبي مشتق مع النبأ فهو فعيلٌ بمعنى مفعول، أو هو مشتق من النبوة أي نبا ينبوا إذا ارتفع، والنبي لا شك أنه رفيع الرتبة، ومحمد صلى الله عليه وسلّم أكمل منْ أرسل وأكمل من أنبىء، ولهذا قال محمد خير نبي أرسلاً.
والمؤلف هنا قال نبي أُرسلا: ولم يقل خير رسول أُرسلا، وذلك لأن كل رسول نبي، ودلالة الرسالة على النبوة من باب دلالة اللزوم؛ لأن من لازم كونه رسولاً أن يكون نبيًّا، فإذا ذُكر اللفظ صريحاً كان ذلك أفصح في الدلالة على المقصود، فالجمع بين النبوة والرسالة نستفيد منه أنه نصّ على النبوة، ولو اقتُصر على الرسالة لم نستفد معنى النبوة إلا عن طريق اللزوم، وكون اللفظ دالاً على المعنى بنصه أولى من كونه دالاً باستلزامه. كما في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عند تعليم النبي صلى الله عليه وسلّم له دعاء النوم فلما أعاد البراء بن عازب - رضي الله عنه - الدعاء قال: وبرسولك الذي أرسلت. فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا؛ قل: وبنبيك الذي أرسلت». لأجل أن تكون الدلالة على النبوة دلالة نصيَّة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أنه إذا قال: خير رسول: فإن لفظ الرسول يشمل الرسول الملكي وهو جبريل عليه السلام، ويشمل الرسول البشري وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، لكن! على كل حال في كلام المؤلف كلمة: محمد تخرج منه جبريل عليه السلام.
والألف في قوله: أُرسلا يُسميها العلماء ألف الإطلاق، أي: إطلاق الروي.
قال المؤلف رحمه الله:
وذي من أقسامِ الحديث عدَّه ** وكلُّ واحدٍ أتى وحَدَّه
قوله (ذي) اسم إشارة.
والمشار إليه: ما ترتب في ذهن المؤلف. إن كانت الإشارة قبل التصنيف وإن كانت الإشارة بعد التصنيف، فالمشار إليه هو الشيء الحاضر الموجود في الخارج.
فما المراد بالحديث هنا، أعلمُ الدراية أم علم الرواية؟
نقول المراد بقوله (أقسام الحديث) هنا علم الدراية.
وقوله (عدَّه) أي عدد ليس بكثير.
وقوله (وكل واحد أتى وحدَّه) أي أن كل واحد من هذه الأقسام جاء به المؤلف.
وقوله (أتى وحدَّه) الواو هنا واو المعيَّة، و(حدَّه) مفعول معه، وهنا قاعدة وهي: إذا عُطف على الضمير المستتر فالأفصح أن تكون الواو للمعية ويُنصب ما بعدها.
فإذا قلت: محمدٌ جاء وعليًّا، فإنه أفصح من قولك: محمدٌ جاء وعلي. لأن واو المعية تدل على المصاحبة، فالمصحوب هو الضمير.
ومعنى (حدَّه) أي تعريفه، والحدُّ: هو التعريف بالشيء. ويشترط في الحد أن يكون مطرد وأن يكون منعكساً، يعني أن الحدّ يُشترط ألا يخرج عنه شيء من المحدود، وألا يدخل فيه شيء من غير المحدود.
فمثلاً: إذا حددنا الإنسان كما يقولون: أنه حيوانٌ ناطق، وهذا الحدُّ يقولون: إنه مطرد، ومنعكس.
فقولنا: (حيوانٌ) خرج به ما ليس بحيوان كالجماد.
وقولنا: (ناطق) خرج به ما ليس بناطق كالبهيم، فهذا الحد الان تام لا يدخل فيه شيء من غير المحدود ولا يخرج منه شيء من المحدود.
ولو قلنا: إن الإنسان حيوان فقط؛ فهذا لا يصح! لماذا؟
لأنه يدخل فيه ما ليس منه، فإننا إذا قلنا إن الإنسان حيوانٌ لدخل فيه البهيم والناطق.
وإذا قلنا: إن الإنسان حيوانٌ ناطق عاقل، فهذا لا يصح أيضاً؛ لأنه يخرج منه بعض أفراد المحدود وهو المجنون.
إذاً فلابد في الحد أن يكون مطرداً منعكساً.
وإذا قلنا في الوضوء: إنه غسل الأعضاء الأربعة فقط، فهذا لا يصح، فلابد أن تقول: على صفة مخصوصة، لأنك لو غسلت هذه الأعضاء غير مرتبة لم يكن هذا وضوءاً شرعيًّا.
ولو قلت: الوضوء هو غسل الأعضاء الأربعة ثلاثاً على صفة مخصوصة، فإن هذا أيضاً لا يصح، لأنه يخرج منه بعض المحدود، فإنه يخرج منه الوضوء، إذا كان غسل الأعضاء فيه مرة واحدة.
وعلى كل حال فالحد هو التعريف، وهو: «الوصف المحيط بموصوفه، المميز له عن غيره».
وشرطه: أن يكون مطرداً منعكساً، أي لا يخرج شيء من أفراده عنه، ولا يدخل فيه شيء من غير أفراده.
أقسام الحديث