منتديات أبو الحسن التعليمية
جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو 829894
ادارة المنتدي جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو 103798
منتديات أبو الحسن التعليمية
جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو 829894
ادارة المنتدي جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو 103798
منتديات أبو الحسن التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات أبو الحسن التعليمية

منتدى تعليمي ترفيهي تثقيفي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:21

القسم الأول

-1-‏

الحاسة السادسة لم تخيّب ظني. كانت صادقة معي. ساعدتني على اكتشاف المجهول. فعندما أتصوّر أموراً غير مرئية، تتحرك أوتار السمع، تبدأ الصور تتقلبّ، والخيال يرسم الحوادث.‏

قالت لي: أحمل نفسك إلى البيت في إجازة، لأن الأيام القادمة ستكون صعبة، وتنبئ بحرب وشيكة. أجواؤها مشحونة بالبارود.‏

وهكذا حصلت على إجازة من قائد الكتيبة لعدة أيام. خلعت بذلتي العسكرية. خلعتها عن جسم، كجلد ثور جاف. قلبي يرفرف بجناحيه كطائر أُصيب بطلقة صياد.. لا أعرف من أين يأتي النزيف. أحياناً يدقّ باب الفرح، ومرات تجترع نفسي أنّات حزينة، ضباباً داخلياً مشحوناً.‏

عدت من إجازتي. بدأت أحزاني تتغلب على آمالي، عندما أقبلت صباحاً على باب الكتيبة، المفتوح للأرض والسماء. حركات غريبة تجاه قسم المهمات. مجندون يشكلون حلقات. تتصاعد قهقهات. ومجندون خرجوا متفرقين توّاً من مهاجعهم المتناثرة، يحملون أكياساً محشوة، وصرراً مربوطة، ممتلئة بالثياب والبذلات العسكرية، وبطانيات مستلقية براحة فوق الأكتاف. أحذية مربوطة بقوة. رؤوس تتحرك بين الدروب الترابية والصخرية. تتوزع في كل الاتجاهات أكواماً من الحجارة السود، وعلى الطريق المرصوفة، الواصلة بين ساحة الاجتماع الصباحي، ومقرّ القيادة، تظهر الفصائل متناثرة على جانبي الطريق، وأرتال من الجنود يسيرون على نحو غير منظّم.‏

وقفت فوق تلّة، ترتفع قليلاً خلف غرفتي. أبحرت ببصري في الجهات الأربع. رأسي يدور كأنه رشاش مثبّت على قاعدة متحركة. رافقتني في تلك اللحظات صور حَملْتها من المدينة التي تضجّ بالسيارات والباعة والجنود والمرضى والحرارة المرتفعة. هنا في هذا السهل، الهواء الجاف، تدفعه غيوم بيض، تنبض رطوبة وندى. رنَّ جرس الهاتف. بدأ يعزف موسيقا خشنة، مزعجة.‏

هل تصدق الحاسة السادسة؟هل ما أتوقعه سيحمله هذا الهاتف المفاجئ؟. لا.. لا شيء جديد! لقد تعودت دون أوقات محددة على رنين الهاتف، لكوني في قيادة الكتيبة. بدأت الاحتمالات تتوارد، والهاتف يستمر في رنينه، ويصطدم في جدران البلوكوس الأسمنتي.‏

أسرعتُ هابطاً من فوق التلّة.. ألو.. ألومين. ردّ المساعد أبو هشام : "وينْ أنت ياأخي. ساعة وأنا أعيّط عليك"‏

مالأمر يا أبا هشام! ماذا تريد في هذا الصباح الندي؟ لم يحن موعد الاجتماع الصباحي!‏

ذهبتْ الاجتماعات الصباحية يارقيب محمود دون رجعة. الوقت كان قصيراً، وأعشاش من الزنابير تئزّ فوق رأس المساعد وحول مكتبه الجنود وصف الضباط ينتظرون أدوارهم.‏

قال : أسرع حاملاً معك ثيابك العسكرية كي أبدّلها لك.‏

دخل رئيس القلم الرقيب الأول محمد. استقبلته بعينين واجمتين وسؤال:‏

ما الخبر؟‏

أجاب: الأمور طبيعية. هل من أوامر جديدة؟‏

كان محمد يخفي عني شيئاً. لايريد أن يعكر عليّ صباحي، وإنما استكمل جوابه بكلمة " الحمد لله على سلامتك". صحيح الإجازة قصيرة لكنها مفيدة. فيها راحة وسمر بين الزوجة والأولاد.‏

كان محمد فرحاً لقدومي، لأنه منذ فترة ينتظر دوره في الذهاب إلى مدينة حمص، وربما سيحصل على يوم زيادة عني.‏

دائماً كان يتحدث عن ابنه الوحيد. ينقل إليَّ حركاته، وكلماته المتقطعة... الآن أصبحت الإجازة في جيبه.‏

أسمع ضجيج الآلة الكاتبة. تتقاطع رنّات حروفها مع نبضات قلبي. الشمس ترتفع، وتنهض فوق كتف السماء، وقطرات الندى تمتصها الحرارة. تنحدر قطرات العرق منزلقة فوق جلد وجهي. حروف الآلة الكاتبة تنهض، وأخرى تلتوي بين أصابع أبي بسام " الرنكوسي".‏

تباشير فيها لحظة وداع، تحتضنها تجاعيد وجه "الرنكوسي"، لكنه لا يريد البوح بها. عِشْرة سنة ونصف لا يريد أن يطويها في دقيقة. هو ليس مسؤولاً عن ذلك. مجند حريص على حفظ الأسرار العسكرية.كأننا في لحظات الوداع، هكذا نطقت الحاسة السادسة. .. لا يا محمود! لم أصدّق أن أمراً إدارياً مازال في بطن الآلة. "ينقل الرقيب محمود من الكتيبة رقم. .. إلى الكتيبة رقم.. التابعة للواء. . ويأتي بدلاً عنه الرقيب عصام، دون أسباب مدوّنة في الأمر الإداري".‏

سبب النقل يحتفظ به قائد الكتيبة وحده، ومن حقّه، ولكن السؤال:‏

لماذا النقل يا ترى؟‏

في الوقت الذي تتحفز الكتيبة إلى جنوبي لبنان "صيدا" وتستعد لصد العدوان الصهيوني! ظلّ السؤال يؤرقني لماذا الأمر بنقلي. . أنا الرقيب محمود ؟!! وبقي يرافقني، وأنا في طريقي إلى مساعد المهمات، أحمل أمتعتي. أنتظر مع الجنود المجتمعين أمام غرفة المهمات. وضعت الكيس فوق كومة من الحجارة. جلست فوقه. مسحت العرق التموزي عن وجهي. أشعلت السيجارة العاشرة. حدقت مطّولاً أتأمل. تأكدت من الخبر، من خلال الكلمات المتقطعة بين فواصل ضحكات الجنود.. إلى صيدا. .. إلى جنوبي لبنان.. الناقورة. .. فلسطين. . العدو.. الأسلاك المكهربة.. الكيبوتسات!!..‏

تداخلت الأمور في ذهني، بل اختلطت! الأمر الإداري للرقيب محمود فقط، ماذا عن البقية؟‏

لم يحضر الجواب على الفور، لكنني تنبهتُ إلى أمر آخر، حَضَرتْ تفاصيله في لحظة غضب.. تذكرت "أنهم " طلبوا من الذاتية معلومات البطاقة الشخصية. . الأسم. الكنية. . تاريخ الولادة. . رقم المسكن.‏

أدرت وجهي باتجاه جندي يحمل الصمت والهدوء في بريق عينيه.‏

تذكرت اسمه من كثرة إجازاته المرضيّة، ونقاهاته الطبيّة. كاد أن ينهي خدمته الإلزامية. وهو يقيس الطرقات بين السهل والمدينة وبين الكتيبة والمشفى العسكري، معلول، يشكو من أمعائه.لايستطيع أن يأكل كما يشاء. يعيش على اللبن الحلو، والبطاطا المسلوقة. طال شرودي، وأنا أتمعّن في وجهه الأصفر، كالشوك اليابس.‏

تتداعى أفكاري. اقترب من معرفة أسمه، وكنيته "رياض شحادة"..‏

ارتحت قليلاً حينما سألته عن موعد الانطلاق إلى صيدا. تيقنت من الخبر، وبدأت أهذي هذياناً مشوباً بالغربة. احتقرت نفسي..‏

الوجع يعود إليّ وبصماتهم تلاحقني!.‏

ماذا يارياض بعد؟. . ألم تسمع بقوات الردع! أصبحنا من قوات الردع، وهذه الحواجز المنصوبة في أرض الكتيبة يتدرب عليها الجنود. . الرياضة صباحية، ومسائية. . القفز من فوق السطوح.. تدريبات مكثفة على القتال القريب.‏

البارحة كُسرت ساق بشار، عندما قفز من علو أربعة أمتار، وشُرطت يد آخر حينما كان يشدّ الحبل، وغيرهم يتلقون العلاج في مشفى المزّة العسكري. لقد سّماها بعضهم "مجزرة شد الحبل"..أرهقتنا التمارين السويدية، والجري، وسباق الضاحية، ولكن أجسامنا أصبحت تتألق، وأكثر أناقة. قطع حديثنا أبو هشام، عندما صرخ، ورفع يده " خلصوني منكما، لم يبق غيركما. هيّا أسرعا"‏

الوداع صعب يا أبا هشام. قلبي الذي كان يقفز على حدود الكتيبة، وفوق صخورها البازلتية، من الصعب أن يعود إلى مكانه.‏

الخبز والملح والسفر الطويل والعذابات الحلوة.. هل تذكر عندما تركنا دير الزور، وانطلقنا من أرض "المالحة " على طريق تدمر؟‏

يومان يا أبا هشام حتى وصلنا "إركيس" جنوب غربي دمشق. كيف أنسى هذه الفترة؟ من ينسى ذلك، يشبه نبتة تميد مترنحة في أرض رخوة! أرضنا صلبة يا أبا هشام، والخندق الذي يجمعنا، يقف خلفه شعب يسند ظهرنا، وسنداننا يتصلب من شدة الطرق عليه.. فلماذا اليوم تطرقون رأسي؟ وقعّ يا أبا هشام على دفتري. أصبحتُ بريء الذمّة الآن. . أمهر خاتمك وتوقيعك هنا.‏

في طريق عودتي إلى قيادة الكتيبة شربت آخر كأس من الشاي صنعته يد "الرنكوسي"..‏

ودعتهم مع قبلات ودموع. . إلى اللقاء. . إلى اللقاء!!...‏

-2-‏

الأيام تتسارع، وتمضي الشهور. سنتان أو ثلاث ستمضي. العمر همزة وصل مكسورة. سطور ملونة، كسهول بلادي، مجعّدة كتلالها.‏

يكاد الدم ينفر من وجهي. لم أنظر خلفي، حينما ودعت أصدقائي. . بصري يمتد. يسوح في الربوع الواسعة. يقطع الخنادق الأمامية. أفكاري كالسواح تنتقل بين المناطق الأثرية. حملي ثقيل. في بطن كيس البحارة أحلام ووطن وربوع، ومياه آسنة، وهواء أكسدته الحروب، وفوارغ طلقات. في السلم يفتشون عني، في البيوت، وبين جدران الجامعة. يوقعون مع قسم اليمين أنهم شاهدوا ضوء بيتي، باليوم والتاريخ. وفي الحروب يحمّلونني كيسي وأمتعتي وحذائي.‏

قلبي جزء من هذا التراب. وصلة من هذه الطرق الطويلة. قسمة من السهول الممتدة حتى مشارف التلال. . أينما ذهبت سأغرد مع أحلامي، سأضرب أوتاد خيمتي فوق أية تلّة أو جبل، أو بجانب الوادي... الأحلام تتطاير من رأسي كعصافير الشتاء.‏

الحاسة السادسة بدأت تتكلّس. لم تَعُد صادقة. أصبحت تعكس الأمور. تكذب علّي. تحوّل الكذب الأبيض إلى كذب أسود. اصبح الذي يعمل يُعاقب. مكروهاً، انعزالياً ذليلاً، حقيراً، مثل كلب شارد يصطاد الذباب من قلّة الحيوانات النافعة.. أنا ذبابة أو حيوان نافق.. أَمُنافق الذي يصرخ في وجه الريح! أمتحايل الذي يفتح ذراعيه للعواصف! جبان مَنْ يسرق قوتي! مَنْ تعوّد على حبّ الناس تسمو نفسه. " لا تعود نفسك يا محمود على كرُه الناس، إكْراه الأمر القسري. إلعن التوقيع على أمر نقلك الرابع".‏

قلت هذه العبارات لنفسي.. ثقبت أمعائي كي تخرج آلامي الداخلية لوّنت بؤبؤي عينيّ، بلون السماء والأرض. كالعسل على قلبي أن تفتح الأودية بطونها للراقصين حُبّاً في خنادق المواجهة، التي تعكس خوذاتهم شمس الوطن. وتمتلئ قلوبهم من ألحان السنونو الهاربة من برد الشتاء.‏

أنهيت تداعياتي عندما قفز إلى محطة ذكرياتي شريط طويل من الصور. بدأت أتطلع إلى محطتي الجديدة.. إلى كتيبتي الرابضة خلف الوادي، تحتضن أرض الجولان. تطلّ عليها التلال والجبال.‏

ارتقت نفسي مع هذه القمم. انبسطت روحي. تزهو، والهواء القادم من التلال يمسح بأصابعه وجهي، يُضفي على جسدي ثوباً قاتم اللون، يحمل بقع الدماء الجافة.‏

قعقعت في دواخلي طلقات خلبيّة، ملونة، وتحوّل ضباب الشتاء القاسي إلى مطر.‏

مطر يغسل جسدي الذي أوهنته متعاعب الطريق، وتبلل حملي الثقيل. أصبح كثوب معصور.‏

-3-‏

بيروت تئنّ مجروحة. رقصت فوق مسرحها عشرات التنظيمات المسلّحة.‏

دوختها القذائف. لوّنت بحرها آلاف الطلقات، وآلاف المذبوحين والمدعوسين ليلاً ونهاراً.‏

جفّ نهر بيروت من كثرة الذبائح والولائم، ونحن نستمع إلى نشرات الأخبار، تعزّينا أحياناً الجمل الإخبارية من إذاعة " مونتي كارلو" تجذبنا في أحيان أخرى تصريحات القادة العرب.‏

بدأت الأحاديث والمناقشات تضيع في متاهات. أصبحت القرارت المكتوبة والشفوية تترافق مع الموت بالجملة.‏

سمعتُ في إحدى نشرات الأخبار الصباحية. " إن قوات الردع في جنوبي لبنان تعرّضت لقصف إسرائيلي.. وردّت قواتنا على العدو وأحدثت خسائر مادية في صفوفه".‏

بينما كنت متوجهاً إلى كتيبتي الجديدة، أحمل محفظة فيها أدوات الحلاقة، وغيارات داخلية، ومنشفة، وزوج جوارب احتياط، وراديو صغير. أكدّت إحدى المحطات الأجنبية صحة الخبر.‏

تتدحرج إلى مخيلتي صور أبي هشام، ومحمد، والرنكوسي، وغيرهم. ثم وقفتْ أمامي صور أخرى. . توابيت ملفوفة بعلم بلادي، وتوابيت ممتلئه بمواد مهرّبة..سيارات محطمة، وخنادق تضجّ بالجنود، ونهر " الأوّلي" يقطع المسافة من مرجعيون، يصل إلى البحر المتوسط، شاهد ٌ صادق على ماجرى، ومايجري. يغتسل فيه الجنود ويتركون عرق أجسادهم المالحة..‏

قطعت مسافة طويلة فوق طريق أسفلتي. الشمس تقذف حرارتها فوق رأسي. يضحك النسيم من الجهة الغربية، يجفف قطرات العرق الواقفة على أطراف حاجبّي. كلما اقتربت تفتش عيناي بين الحفر، والتراب المرتفع خلف الخنادق. لا وجود لبشر. لم ألمح الجنود الرّصاد، ولا المناظير، كانت التلال تقترب مني، وأنا اقترب منها، وتبقى المسافة طويلة‍.‏

ياإلهي ‍ ما أقرب الأفق الذي يشكل ستارة وراء الجبال.. بعيدة التلال. أمشي يا محمود. تنعّم بهذه التربة الذهبية، والأعشاب المتيبّسة جوانبها.‏

وصلت إلى "رسم خميس". الصيف في نهايته، وأيلول يحبل بالأمطار. وجوه الجنود ليست غريبة عني، مثل وجه الرنكوسي، ومحمد، وأبي هشام، آخر سلّمني بطانيات، ووسادة، وسرير صدئ وضَعْته في فم الخيمة، أسندته بالأحجار، وجعلت منها صينية للطعام. أتكئ عليها. أفتش في ثقوبها. أنكش الأتربة المتجمدة فيها. وتنبسط أمامي مناظر متباينة. . لا وجود للأشجار. قرية متناثرة البيوت، ورُعاة يسيرون خلف مواشيهم. أجراس تصدح، ونعاج تجتر. أنفاس العشب المهضوم، ورائحة البول، تنقلها الرياح كلما هبّت علينا.‏

ساعات الغروب في هذا اليوم تمرّبطيئة. المناوبة في آخرها، وسيحدث التبديل بعد شهر.‏

خلال هذا الشهر أصبحت أعرف كل عناصر السرّية، لكنني كنت أتحاشى قائدها...قرأت في ملامح وجهه قساوة الطبيعة. في صرامة أوامره المكروهة، خشونة وجفافاً. لا يحترم أحداً. حليق الرأس، يهتم بعضلاته وحمل الأثقال. يقضي اليوم يفتش عن الحجل والأفاعي. ومن خلال رحلة الصيد اليومية، يتفقد السرايا والفصائل. عندما تعرّف إليّ مساء، قال:‏

أترى تلك النقطة؟. توجد هناك جماعة، وقائد هذه الجماعة في إجازة.. مهمتك الآن، المبيت هناك، خلف النهر.‏

لم أتمكن من تسليم الأمر الإداري إلى قيادة الكتيبة. أمر جديد، ومهمة جديدة. ألا يحترمون الضيوف!!...‏

حصلت على بعض الإرشادات، منها : انتبه! ‍ الأرض ملغومة‍! أمامك نهر.. أسرع قبل أن يحلّ الظلام.‏

مشيت باتجاه النقطة، أتنقل بين الألغام. أقفز بحذر. أقطع الحقول المسوّرة بالحجارة المكوّرة. الشمس توزّع آخر حزمها الضوئية على مياه النهر. يمتد ظلّ التلال. استطعت بعد محاولات، ومعاناة، وحوارات، أن أجد بعض الحجارة التي ساعدتني للوصول إلى ضفة النهر الآخرى.‏

اختفت الشمس وراء الجبال، ولم يبقَ سوى بقعة حمراء تلامس حدود الليل.‏

صعدت، وأنا ألهث. ثيابي تعصر ماء. وبصري يتقدم نحو الأمام. أبحث عن مكان الجماعة‍‏

تتلاشى موجات التعب. . أخذ قلبي موقعه الصحيح، حينما اقتربتُ من حارس النقطة العسكرية.. أوقفني.. مَنْ أنت ‍ كلمة السرّ‍.‏

لم تنفع الابتسامة في مثل هذه الحالات. أصرّ الحارس على معرفة كلمة السرّ، وعندها قلت له " تفاحة" أشار بالأمان، ورّحب بالضيف الجديد.‏

نشرت ملابسي. ارتديت بذلة عمل من أحد الجنود. انتظرنا البطاطا المطبوخة مع البندورة. أكلنا، وشربنا الشاي.‏

كان الليل بعد العشاء يلفّ الأرض والسماء. يجثو بثقلة ورعبه فوق التلال المجاورة، وبين فترة وأخرى تظهر الأنوار الكاشفة، وأصوات جنازير الدبابات، وأنين السيارات والبلدوزرات، وقذائف مدفعية، كأنها تُعلن بداية حرب. . لم تتوقف طوال الليل !‍.‏

غسل الصباح تعب الليلة الفائتة. تسابقتُ مع زخات الأمطار الخريفية، متجهاً إلى خيمتي. لمحت قائد السرّية بلباس الصيد.. بارودة تستلقي فوق كتفه. يغطي رأسه الحليق بطاقية ذات رفٍّ ممدود للأمام.‏

استلقيت على سريري أبحث عن أسرار الأيام القادمة. مللتُ من اليوم الأول.. أكل ونوم ولعب ورق وشرب شاي.. أحاديث فارغة، وهواء نقي جاف، يختلف عن هواء المدينة الملوث. هدوءَ ونوم عميق. كسل مكروه. ابتسامات، وقهقهات يصدرها بعضهم، ملوثة كمياه بردى.‏

أفكار تدور في رؤوس فارغة دون معنى. تخرج تعليقات، وأحياناً أحلام، بالذهاب إلى لبنان. غنى وفقر. الفقير المتروك في الخنادق الخلفية، يصبح غنياً، وذا صحة جيدة إذا التحق بقوات الردع. مهمات ورواتب إضافية.‏

البحر نهب العقول، جعلها صغيرة كبيض السمك. البيع والشراء.. الأجساد المحروقة من شمس الشواطئ الرملية. . نفوس مطاطية يسيل لعابها بارداً على إيقاع وتموجات الأحاديث، عن البرج، والروشة، والبقاع، وساحل مدينة صيدا، عن الفتيات اللواتي يبحثن عن أزواج، عن العوانس والعاهرات.‏

مضى الشهر الأخير من فترة المناوبة على هذه الحال. أصبحت كروشنا تثقل أجسامنا، ووجوهنا موّردة، كالأغنام في ربيع دسم المرعى.‏

لفّتنا موجة العودة، وسيارات محمّلة بالأسرّة الحديدية، والخيم الكتّانية، والبطانيات، والأسلحة الفردية.‏

كانت رحلة قصيرة في الكتيبة الجديدة. وهل ستكون أوامر وتعليمات جديدة؟‏

كنّا نشاهد، ونرسم بيروت في أحلامنا، وهل تتحقق الأحلام؟ ومتى نذهب كقوات ردع إلى بيروت؟‏

اصطدمت أحلامنا بالمقرّ الجديد. أرض صخرية، وأشواك، ودروب ضيّقة رسمتها الحيوانات. ... حُمرٌ سائبة، وطريق أسفلتي يحمي حدود الكتيبة من جهة الغرب، وقرى متباعدة.‏

أصبحنا في أرض جرداء. . الهواء البارد، الجاف يحمل معه شتاء قاسياً كيف سنقضي هذا الشتاء، وأين؟‏

-4-‏

" الرنكوسي " له ثلاث خصى. الخصية الثالثة تصعد وتهبط، أحياناً تهاجر. يفتش عنها دون أن يجدها، لكنه لم ينجب. يأكل " الصَدَف" ساقيه. وجهه مدوّر كليرة فضية. جسمه نحيل. أبيض البشرة مع اصفرار. اسم زوجته " لطيفة" وهي كذلك. هادئة. تحمل هموماً موجعة. تتنقل بين عيادات الأطباء.‏

" الرنكوسي"، الملقب بأبي بسام يحبّها، وهي تحبه. جمعهما الفقر. حياتهما بسيطة. وحينما زرتُ أهله في وقت سابق، كانت جلسة هادئة. والده خادم جامع في منطقة المزرعة بدمشق.‏

غريب أمر الرنكوسي، بثلاث خصى، ولم يُنجب. . أمر هذه الدنيا محيرّ!! بعض الناس يئنّ من كثرة الأولاد، وبعضهم يفتش عن سبب عدم الإنجاب.‏

عندما تنبسط أسارير الرنكوسي، ويفكر تفكيراً جدياً، يقول : لماذا الأولاد؟‏

أمن أجل الميراث الذي يتركه والدي! ثم يقف، وينهق كالأتان. .. الحمر تلد ‍ إن الله خلقني كبغل أمشي على قائمتين. . البغال، يامحمود لا تلد، لماذا ركبتُ هذه البغلة، وضاجعتها ثلاث سنوات متتالية؟...‏

تحتفظ لطيفةبالسر. تخبئه عن عمّها، وامرأة عمّها. يخجل الرنكوسي من قول الحقيقة أمام والديه. ومن كثرة إلحاح الوالدين على ابنهما كي يطلّق لطيفة ويتزوج.‏

جاء ذهابه إلى صيدا مُفرجاً لحالته، ومبرراً تأجيل الطلاق. أصبح الوالدان يفكران به، وحين يسمعان ما يحدث في الجنوب من قصف صاروخي، ومدفعي، وهجوم إسرائيلي، يتقرّبان من لطيفة، ويحاسناها. ينسيان الأولاد يراقبان العائدين من صيدا، ويسألونهم عن ابنهما.‏

تكتفي لطيفة بالصمت، والنواح. تصلّي. تشتري العسل، وتخلطه بالأعشاب، كدواء عربي لزوجها.. هكذا قال لها الشيخ، وطمأنها بأنها ستُنجب صبياناً وبنات، وسيملؤون البيت بضجيجهم، وصراخهم.‏

الحلم في صيدا يا محمود ‍ أحلام الفقراء تتكسر على شاطئ المتوسط الرملي. بنات صيدا أشهى من فواكه الغوطة‍!‏

كانت لطيفة تسمع، وتتمتم، وتظهر ابتسامة جافة على ثغرها.‏

تقول في سرّها :" بسيطة. . الأيام القادمة ستكشف الحقيقة يا أبا بسام سأقول لوالديك إنك عقيم، وخيرك مسحوب من ظهرك"‏

هل تعرفون أن صيدا كانت تسمى " صيدون" وصيدون معبد حضاري مرّت على شواطئه شعوب وشعوب.‏

أصبح الرنكوسي يتحدث عن التاريخ والحضارة. . الذهاب إلى صيدا ثقّف الجنود، وعلّمهم أيضاً فنّ التجارة. صيدا مركز تجاري فينيقي، وميناء نفطي هام. النفط المكررّمن مصفاة الزهراني أغدق على السعودية الدولارات. الذهب الأسود، يتحول إلى ذهب أصفر.‏

قلت : لا تغرقنا بأحاديث التاريخ والتجارة. مهما ربحت من تهريباتك الصغيرة يا أبا بسام، فعليك أن تنسى وضعك، ولا تسبح في مياه أعمق من مسبحك. السبّاحون الماهرون يصلون إلى الأعماق. مازلت تنكش في رمال الشواطئ، وتصيد صغار السمك. هل ذقت طعم الكافيار؟ جرّب هذه الأكلة‍. هل تعلمت شرب العرق والويسكي؟‏

لم أستطع قول ذلك أمام والديه، ونحن نجلس في غرفة ملحقة بالجامع. استغفرتْ لطيفة الله" سبحانك يا الله، يا إله الحق والعدل"‏

- لا تخافي يا لطيفة. ليس كل ما يحدث مع زوجك تعرفينه بالضرورة. خلّي همّك على قدر حالك. سيعود زوجك بعد شهر، ومع بداية الصيف سيتم تبديل قوات الردع. فهذه فترة استجمام دافئة، ربما مياه البحر المالحة ستشفي زوجك من هذا المرض، ويتخلص من هذه الأدوية، وربما إذا أكل الكافيار، سيعود خيره إلى ظهره، وربما إذا تخلص من الخصية الثالثة سينجب ‍ إنها احتمالات ‍‏

- دخيلك يا محمود اعتبر نفسك لا تعلم بأن زوجي عقيم. أنا التي لا تنجب، وأخرجت ورقة طبيّة، مصدّقة من وزارة الصحة، بأن لطيفة بنت أسعد، أمّها زينب، سالمة صحيّاً، وزوجها عقيم.‏

الحياة مفتوحة لجميع الناس.. الدنيا واسعة لمليارات البشر، والحيوانات وتتسع لمثل هذا العدد أيضاً، فيها العقيم، والمنجب، الأسمر والأبيض، الأسود والأصفر.‏

قارات العالم.. هذه الكرة الأرضية، بجبالها وسهولها، وناسها، متنوعة. كل يوم يتعرف الإنسان إلى جديد في هذا الكون، وأبو بسام، ولطيفة جزء من هذه الدنيا. يحتاجان إلى بسمة طفل. إلى طفل يداعبانه يُناغي على فراشهما. يبول على سرير النوم. يصيح كعصفور حين يجوع. يغني. ينطق.‏

يبقى الأمل يدغدغ الأبوين الحالمين الشاردين في تفكيرهما. وعلى الرغم من أن البحر امتص قسماً من هموم أبي بسام، اتسع البعد بين لطيفة وزوجها.‏

يظلّ الأمل يتضورّ جوعاً. وتبقى الشهوة ناقصة، لا يتممها سوى طفل أو طفلة، سمراء أو بيضاء، لا فرق بذلك!.‏

أنتم يا أبا بسام السابقون، ونحن اللاحقون إلى صيدا، أو المنطقة الغربية من بيروت. ولا أحد يعلم أن كتيبتنا سيكون مركزها قرب المجلس الحربي الكتائبي، أم قرب الصيفي ‍.‏

ملعونة الأرض التي تطرد أبناءها. " طوبي لكم لأنكم ترثون الأرض"‏

طوبى للجنود الذين يغتسلون بمياه البحر المالحة. ويفترشون الرمال. تغسل السماء خَدَرِها بضوء نجومها. يوزع القمر ابتساماته على سكان الأرض. تحرق أشعة الشمس كل مَنْ يعتدي على حدودها.‏

أفكار تنقلني من الأرض الوعرة. تمسح روحي بالرذاذ المندفع الذي يترنّم عشقاً للصخرة المشهورة الجاثية قرب الشاطئ. يغسل الناس همومهم فوقها. ويتربّع العشّاق، يتلطّون في خدوشها. يقف فوق رأسها المنتحرون الذين أوجعتهم مآسٍ مجهولة.‏

قلت مطمئناً : "ستذهب يا محمود إلى بيروت. . بيروت العاصمة، ولكن إلى القسم الشرقي منها"‏

أسمع عن بيروت، المدينة المفتوحة على العالم. .. بيروت التي يحجّ إليها العمال السوريون، والمصريون. يلجأ إليها الذين يخالفون القانون.. محطة للسياسيين. ملجأ أمين للمطاردين.‏

بيروت تغفو على رأس بيروت. ترسو بقربها السفن. ويرتاح في فنادقها البحاره.‏

بيروت أصبحت راكعة أمام القذائف، والصواريخ. . ليلها المكحّل بالفرح صبغته الحرائق بلون الموت. ونهارها الذي يضجّ بالضحكات، والباعة المتجولين، والمحلات الأنيقة، والشوارع النظيفة. تتكدّس في شوارعها وشواطئها آلاف الجثث المحروقة.‏

صفارات البواخر أصبحت أجراساً حزينة. وتعتلي موجات بحرها الزوارق المطاطية، القادمة من الجنوب، من المستعمرات الصهيونية. ألف ليلة وليلة يابيروت، آلاف الأيام. انهكت قواك قذائف الرذيلة. لم تّعُد كما سمعت عنها، لكنني سأعرفها. أمشي في شوارعها، لأنزع إبر الآلام المغروسة في جوانبها، قلبها.‏

هيروشيما المدماة مازالت، ومنذ عقود تنزع من جسدها شظايا القنابل. بيروت مثل هيروشيما. تسكن مثلها فوق الشاطئ. تحلم مثلها بسعادة أبنائها، لكن ليست هذه مثل تلك!‏

جسد بيروت مثقوب بملايين الطلقات والقذائف. ملايين الفوارغ النحاسية في بحرها. ستتحول شواطئك إلى مناجم للنحاس. ستصبحين " سانتياغو" عربية.‏

تسابق على عشقك مئات الحكام، والناس المهووسون. أصبح طفلك تاريخاً كاملاً يعض على ثدييك. حلمتا ثدييك مقضومتان. تسيل منهما الدماء. تحوّل حليبك إلى دمامل. أبناؤك حرقوا جسدك. أصبح جسدك مطيّة لكل مَنْ يشتهيه. ضاجعوك حتى أصبحتِ لا تشعرين برعشة الأنوثة. حرموك من أمومتك. تحوّلت أعراسك إلى مآتم، وأعيادك إلى مجازر، وتل الزعتر مقبرة جماعية. . جسورك الواصلة بين أعضاء جسدك تنزف دماً.‏

جفَّ نهرك. يبست شواطئك. . قنبلة موقوتة في خاصرتك الحدودية، ومزارع الليمون والبرتقال مقابر لأسلحة الدمار والموت.‏

أسمع أناتك الموجعة، وصريف أسنانك ياحبيبة الشعوب والدول.‏

كم رقصتْ أشعار " حاوي "، وكتب " نعيمة "، ومُناجاة "جبران" على دفّات قلبك، فأصبح قلبك ينبض بالعشق والحب. هل تعودين إلى حبيبك الأول؟ متى؟ كيف؟.‏

بدأ العقد الثاني، وجلدك يُسلخ كل يوم ألف مرّة. ترسم عليه الأسواط دروباً. تصبغه بالحروق. تحفر فيه الدمامل حفراً، ومآوي للثعبان، والمخمورين والحشاشين. امرأة ثكلى. أولادها يجرفهم السيل. أشواك مراعيها تركت خضرتها في بطون الحيوانات النافعة.‏

أعلك أحلامي بعيداً عنك. أسمع عزفاً رحبانياً جنوبياً.. لحناً ونواحاً. . لم أَعُد أقدر على التمييز بين موسيقا الموت، وموسيقا الفرح.‏

تظلّ بيروت تهزّ مشاعر الليل.. متى يابيروت نشرب نخب ولادتك ؟‏

يجتمع أبناؤك من أقطاب الدنيا. يصلّون في كنائسك ومساجدك.‏

متى يكسّر أطفالك ألعابهم الحربية، ويلقون بالمسدسات والدبابات البلاستيكية في بحرك؟‏

أنت أيتها الراقدة على ساحل شرقي المتوسط، ستغتسلين من جديد بمياه البحر يوم زفافك. وينتشر شعرك المنثور على شواطئك.. تلبسين ثوب العرس الممهور بخاتم السلام.‏

اطمئني يابيروت أن عرساً قادماً سيأتي، وتعودين إلى نشوتك. . إلى أنوثتك، تتأبطين عريسك، وتغنين مع جداول الصباح.‏

-6-‏

فتحت بيروت الشرقية لنا صدرها ضاحكة. استقبلتنا، ونحن نعزف لحن الجنازير. مُثقلة سيارتنا بأحمالها.. وجوهنا تلمع بالفرح، مصوّبين سلاحنا نحو الخلف، لأن اتجاهنا بعكس مسير السيارات.‏

الطريق طويلة إلى بيروت، رغم قصر المسافة. السنة تقترب من نهايتها الشتاء بارد. تزهو ظهور الجبال، تضحك للثلج القادم، لكن هل من أمر إداري جديد؟‏

أخيراً تأكدت أن القيادة صممت أن تنقلني معها في هذه المرة لكوني خفيف الوزن، ولا أُثقل أحمال الشاحنات. وسيلف بنا الطريق باتجاه "الكرنتينا"، قرب " المجلس الحربي".‏

لم يَطُل الزمن بين الكتيبة المتجهة إلى صيدا، وكتيبتنا المتجهة إلى شرقي بيروت ضَمُرت المسافة. اختصرت التدريبات لمدة أسبوع، ولأن معنوياتنا عالية. . كتيبة معززة بفصيلة دبابات، وفصيلة مدفعية، وأسلحة وذخائر كافية.‏

قبل عدة أيام من رحلتنا التي يمكن أن تطول، لا نعرف ماذا يحصل في المستقبل !‏

التقيت الملازم " بركات"، كانت صلة قرابة تجمعنا، هو من كتيبة الدبابات.‏

كان الّلقاء ودياً، ولكن إشارات بدأت تقفز فوق وجهه. شككت بالأمر. سألته عن صحة خبر مشاركتنا بقوات الردع، وذهابنا القريب إلى المنطقة الشرقية من بيروت. ابتسم قلت : أتمم! ضحكتك أجعلها طويلة على اتساع هذا الصباح الفلاحي، حيث السماء تبشر بهطول الأمطار.‏

- لا.. لكن!!..‏

- ولكن ماذا يا ملازم بركات؟ هل من أشياء جديدة.‏

- الرجاء ألاّ تخبر أحداً، وبخاصة النقيب، أبو صطيف، مسؤول الأمن.‏

- لماذا ؟‏

- لأننا نحن " الاثنين" نعلم بالأمر.‏

وما الأمر سيدي!.‏

أعتقد أن أمر نقلك، سيصلك في الأيام القادمة. لم تأكل وجهي المفاجأة. تربّعت على فمي ابتسامة ثقيلة. بدأ الوطن يدور بين مقلتيّ، واتجه قلبي إلى الخط الأمامي.‏

قلت لنفسي : " ما أجمل وطني الذي يكرّمني، بمعرفة حدوده، حينما يهبني تذكرة السفر. سأستقل أول سيارة إلى أي مكان "‏

وتابع الملازم بركات.. أعتقد أن القيادة، رغم التقرير الذي وصل عنك من إدارة الجامعة التي درست فيها. سيطمسون الأمر ويتجاوزونه. وستبقى ضمن قواتنا.‏

وماذا في التقرير؟ هل لّوثت سمعة البلاد في حياتي الدراسية، وكيف؟‏

- لا. .. لم تصل الأمور إلى هذا المستوى!.‏

قاطعته. .. قلت كلمتي الأخيرة: على كل حال، خدمة الوطن شرف للمواطن في أية بقعة من أرضه، هما سنتان ونصف، وتمضيان.‏

ودّعني.... تهاطلت الأمطار بغزارة، تعانق أرضنا الطيبة.‏

وصلت استعدادات الكتيبة إلى أوجها. وتمّت كل التجهيزات، أحضرت الشاحنات.. ونظفت الأسلحة، وزينت. سُلمت عناصر الكتيبة بذلات عمل جديدة، كذلك أحذية. بدأت التعليمات والتوجيهات تتوارد بالتتابع.‏

قال "قا.ك": "موقفنا هو الدفاع عن عروبة لبنان، ووضع حد للقوى اليمينية، ومواجهة العدو الرئيسي الذي يعزّز قواته، لشن هجوم مفاجئ على لبنان".‏

في ليلة الوداع، تصلّبت أذناي. وقف شعر رأسي. تسطرت أمامي صفحات طويلة من المعاناة. تذكرت المقابلة مع أبي صطيف، حينما قال لي: "إنه لم يؤذِ أحداً، وعدّد بعض الأسماء.. إبراهيم. .. جابر. .. رامز. .. كلهم أمضوا خدمتهم الإلزامية في الكتيبة، وأنا أعرفهم، والمعلومات مسجلة في أضابيرهم، ولكنهم كانوا قدوة في العمل والانضباط".‏

دعاني مرة لتناول طعام الافطار معه. استغللت المناسبة، وأدليت له بالحديث الذي دار بيني، وبين الملازم بركات. طمأنته بأن هذا السرّ سيظل حبيساً بيننا، ولم يخرج من دائرتنا.‏

قلت: الشجرة الخضراء، عندما تتعرض للرياح تسقط بعض أوراقها، وتبقى الأوراق القوية ملتصقة بالأغصان، ومثبته فيها بحنان.‏

- ما المقصود من هذا القول؟‏

- أقصد، أننا من وطنية واحدة، وتنبت تربتنا أزهاراً ملوّنه. لك لونك. ولي لوني. . اللونان تحت سقف واحد، وفي صحن واحد. .. السماء تغطي الجميع.‏

أخذت الضحكة العريضة مكانها فوق وجهه الأسمر اللامع.‏

قال: سترافقنا إلى بيروت الشرقية. أما بيروت الغربية، والجنوب، فمحظوران عليك!‏

شربنا الشاي. . كان الهواء في الخارج يضرب بقوة أركان " البراكيّة" ويزمجر، أسمع أصوات التوتياء تنبئ بقدوم غيوم من شرقي المتوسط... وقذائف، وقنص مسموم. ستكون الأيام القادمة شرسة، وستحلم بيروت، وتغفو مصلوبة فوق الجمر والحرائق، وستعيش قلقاً ودماً ودخاناً، يغطي قلبها، وبحرها!.‏

- 7-‏

الرتل طويل. الشاحنات تتقاطر، ونحن مستلقون فوق أكوام البطاريات، والأسرّة، ونودّع العاصمة المثقلة بالغيوم والضباب والهموم. والأشجار تصفّق على جانبي بردى، الذي ارتفع منسوبة بعد صيف حار.‏

الطريق ضيّقة. .. اتسعت بعد أن قطعنا مدينة "الهامة"، ثم أخذت تضيق ثانية، كلما حاصرتها الجبال من الجانبين.‏

يمتد بصرنا. تضيع االغوطة بين التضاريس. تفصلنا عنها منحدرات ووديان سحيقة. المصفحات تتقدم الرتل، والرشاشات المتحركة تدور في كل الاتجاهات، مثبتة على السيارات.‏

الجاهزية عالية خوفاً من كمائن مسلحة، أو مفاجأة ما من العدو الصهيوني! وبعد أن قطعنا "ضهر البيدر"، بدأت تطلّ علينا رؤوس الأشجار، والفيلات الحجرية، والقرى الجبلية الحالمة، والدمار، وبقايا سيارات محترقة، وجدران مطرّزة بمئات الطلقات، أو مصدّعة. . أسواق مفتوحة، ومواد استهلاكية مكدّسة أمام المحلات. . جنود سوريون، وحواجز متنقلة من عناصر تابعة للقوات الوطنية. وماذا بعد هذه المشاهد واللوحات والصور!.‏

- لا أحد يعرف من صف الضباط أو المجندين شيئاً!‏

رفع المجند " حيّان" يده. اعتقدتُ أنه يعرف الطريق، لأنه ساهم هو وعشرات العمال ببناء الكثير من الأبنية والقصور لخليجيين، ولبنانيين ومغتربين، حتى قال: أنه ساهم ببناء المجلس الحربي الكتائبي، وبقي عامين في "الكرنتينا".‏

- أنت يا حيّان دليلنا في هذه الغربة، وفي هذا المشوار الطويل.‏

- نعم. . ومستعدّ لتسمية جميع المناطق... فهذه الفيّاضية، وهذا جسر الباشا، ثم سن الفيل، وجسر الموت. . نهر بيروت. . النبعة، ثم انعطفت الشاحنات.. وقف حيّان.‏

مدّ رأسه. .. ردد بهمس. .. هذه بقايا البيت الذي أمضيت فيه أجمل سني عمري! ألا ترون. .. تمعنّوا! إنها " الكرنتينا"، وأشار بيده إلى المجلس الحربي "القيادة العسكرية لحزب الكتائب ".‏

كانت " الكرنتينا" التي حدّثنا عنها حيّان، ممسوحة عن وجه الأرض. أصبحت ذكرى تعشش في رأسه. ترك فيها أشياء جميلة، وصرّة ممتلئه بالحب والسمر والعشق والتعب، كما قال لنا.‏

- فما هو أجمل شيء تركته في هذه التربة؟.‏

كان يضع كفّه ركيزة لخدّه... انتفض مثل كلب أكلته البراغيث، ثم دار باتجاهي، همس بحزن : تركت جزءاً من قلبي !....‏

- ماذا؟ أَعِدْ !‏

- فلقةٌ من قلبي.‏

- أصبح قلبك ناقصاً.‏

- كرغيف الخبز يا محمود. . وجهها مدوّر. يطفح بالأنوثة. سمرتها جذابة، وقاتلة، بل مميتة. كانت تتسمّر جامدة كقرص الشمس، تنتظرني.‏

- هذا كلام فارغ، مستهلك.‏

مطّ كلمته. فا... ر. ..غ...‏

- أنا " صاخوري"، هل تعرف حي الصاخور في حلب ؟‏

- " أنتم كدعان، وأبضايات".‏

- لماذا لا نكون ؟.‏

- لم أتزوجها، لأنها. .‏

- ماذا؟ أقلقتني!‏

-لا يامحمود. لا تقلق. أصابتها شظيّة قطعت ساقها. وانتحرت، أو نحروها!.‏

الشمس تهبط نحو الغرب. البحر يتشبث بأشعتها كطفل رضيع..‏

وخيالات السفن تنهض من الأعماق. الدفء يخيّم على طرف بيروت الشرقي- وكانت الأمطار تغسل شوارع المدينة.‏

خلعت المعطف العسكري. أخذت نَفَساً طويلاً وممتعاً . . هذه بيروت التي حلمت برؤيتها يا محمود... هذه بيروت التي قرأت عنها، أو لمحت صورتها في بطاقة معايدة.. هذه بيروت التي حدثني عنها عمال المواسم.‏

قلت " تحدثتُ مع قلبي، وذكرياتي": " صورة يتيمة أحتفظ بها.تغطيها نفحات وردية. تذكرت أني عندما كان عمري خمس سنوات. .. حملتني أُمي معها إلى بيروت لوداع خالي المهاجر إلى البرازيل. . من ذاك اليوم عرفت بيروت، ومازالت تسكن مطمئنة بين نبضات قلبي".‏

مرّت هذه الصورة، كشريط عابر، ونحن نقفز من الشاحنات العسكرية إلى محطتنا الجديدة على كتف الشاطئ اللاهث. الذي أتعبته الأمواج وأسكرته القذائف. .‏

هذه محطتنا، هذا مقرّنا. بناية عالية. سبعة طوابق فوق الأرض، ثلاثة طوابق تحت الأرض، يشغلها معمل مسعود للشوكولا!‏

في صباح اليوم الأول أحضر حيّان فنجاني قهوة. جلسنا في شرفة، ينبسط أمامنا البحر. سرحت عيناي فوق الأمواج الهادئة.‏

قال: أشمّ رائحة الموت. . سنة كاملة تنقلت فيها من حي إلى حي. لا حقتني عشرات الطلقات. نَجوْت منها بصعوبة وكيف نجوت لاأعرف؟‏

فتح علبة سجائر أميركية جديدة. تلمّس شاربيه الخشنين. أشعل سيجارة. رائحة القهوة، رائحة الدخان، ونسيم يعبق، يحتضن وجهينا.‏

-بيروت هادئة ياحيّان!‏

-حرب السنتين ستمتد إلى عقدين، وربما حتى نهاية هذا القرن!‏

- العلم عند الله، وعند. .. أعتقد أن القرن القادم هو قرن السلام والمحبة!‏

- أكمل. . لماذا توقفت عن الحديث ؟‏

- العلم عند الذين يسكرون على رائحة الموت.‏

- لماذا سكتّ يأخي؟‏

- لم أسكت يا محمود!‏

- ماذا جرى لك؟. .. تابع، وإلاّ سرحت مع ذكريات الماضي.‏

- الماضي يدغدغ أحشائي، ويرفع بوابة قلبي إلى باب السماء.‏

-أراك انتقلت من الأرض إلى السماء !‏

- لأن المحاصرين على الأرض تشرئب آمالهم نحو الأعلى.‏

حاولت استفزازه ببعض العبارات، حول خطيبته " سمر".‏

قلت: أتعتقد أن انتحار " سمر" كان بسبب قطع رجلها، أم أنك ظلمتها، وأحببت غيرها!..‏

وقف حيّان متأثراً دون أن يشعر. اقتربتْ تجاعيد وجهه من بعضها، وكادت تقفز إلى وجهي.‏

خففت عليه الأمر، بقولي: لا أقصد أنك لا تحبها.‏

لكن.. ماذا؟‏

حدّثني عن قصة حُبّك.‏

أدلى حيّان باعترافات حُبّه، كأنه يقرأ قصيده. تخرج من فمه عبارات شاعرية.رغم ضعف ثقافته. علمته التجربة، فتح البحر ثقوباً إبداعيه في رأسه، ثم أخذ يسرد قصته، وأنا أراقب حركاته، وتلاوين وجهه المغبر.‏

" انتقلت يا محمود من حي الصاخور بحلب- حيّنا فقير، كالكرنتينا - إلى بيروت، وتعرفت على" أبي داني، وهو صاحب تعهدات. أحبّني وأحببته. بقيت أعمل في ورشته سنتين. هذا " المجلس الحربي" الذي تراه، أصبح مقرّاً لقيادة حزب الكتائب. عملت فيه نحو سنة ونصف. ولم أكن أعرف أن هذا البناء سيكون على ماهو عليه الآن، وإنما كنت أسمع أنه بناء لوزارة الدفاع اللبنانية، وأنا لا أتعاطى الأحزاب، والسياسة. حالتي على قدّها".‏

-لا تحاول أن تبتعد عن جوهر السؤال: كيف تمّت قصة الحب مع سمر؟ " أخذت غرفة بالكرنيتنا بأجرة خمسين ليرة لبنانية شهرياً، ووصلت أجرتي اليومية في تلك الفترة إلى نحو مئة ليرة "‏

- قبل أن تتعرف عليها كما قلت - وهي من عائلة فلسطينية الأصل- كم فتاة سكنت قلبك؟‏

" البنات لاتحصى أعدادهنَّ، لكن القلب، عندما يهفو إلى شابة ناضجة، سمراء، عيناها عسليتان، جذّابة، هادئة، تسقط النظرات العابرة. كانت بقعة ضوء قطعت عليَّ كل محاولات المراهقة التي كنت أفكرّ فيها. وهذا الشاطئ الذي يتراءى لك اليوم حزيناً، كان يضم عشاقاً.. شريط بشري يلوّنه، والبحر يُغدق عليه من خيره. تنثر الأمواج رذاذها، ويتطاير شعر سمر، يمسح وجهي. يقبّل وجنتيَّ. يغطي عينيَّ.‏

قطعت الحرب الأهلية رجلها. كانت الشظية مقصّاً حاداً مزّق أوتار قلبي، ورغم هذا كله، لم أشعر يوماً أنني سأتركها، هي التي فاتحتني بالموضوع.. بدأت حديثها بدمعتين تتقاطر منهما الأوجاع، ثم انفتح مجرى الدموع. بكاء وكلام، يحملان مشاعر إنسانية شفافه، مازالت خالدة، ومؤثرة في نفسي، ولن تموت! وحتى هذا التاريخ أجد صعوبة في نسيان تلك اللحظات المرتعشة من حياتي. . أجد صعوبة في البحث عن وجه جديد وقلب جديد!".‏

- ماذا قالت: إنك تسترسل !‏

" قالت : لم أعد أصلح لك يا حيّان. أنت شاب في مقتبل العمر وأنا مُعاقة..‏

في تلك الليلة الحزينة، بعد أن عادت من المشفى لم أرها، لأن الجرافات "الكتائبية"، والدبابات، مجموعات الموت خرجت جميعها من المجلس الحربي. زحفت على الكرنتينا، ومسحت بيوتها. أصبحت سهلاً منبسطاً، وانطمرت سمر في تربتها..‏

هذا هو الانتحار! لكنني مازالت أحتفظ بساقها المقطوعة.."‏

-9-‏

مرّت ثلاثة أشهر، بيروت تسبح في فضاء هادئ. الحياة طبيعية. . الناس في أعمالهم. التلاميذ في مدارسهم. . البحر ساكن. أمواج خفيفة تقترب من الشاطئ بصعوبة. البواخر تفرغ حمولتها. ويعجّ الميناء بالبضائع والتجار والسماسرة، والمرتزقة.‏

كنت مع حيّان في دفعة مبيت واحدة. .فكل أسبوع يذهب هو إلى حلب، وأنا إلى دمشق، نقضي ثمانياً وأربعين ساعة عند الأهل والعائلة. أصبحت لدى كل واحد من قوات الردع، بطاقة تُثقب عند الحواجز. كانوا يسمحون بشراء مواد لبنانية بقيمة مئة ليرة فقط.‏

كانت السيارات العسكرية المنطلقة من بيروت تمرّ في طريق إجبارية " نهر بيروت" وعلى يمينه " كرم الزيتون" و" الأشرفية"، ثم تقطع جسر الموت، باتجاه " سن الفيل"، حيث كانت هناك " قيادة اللواء". هذه المنطقة هي مكان اللقاء بين عناصر الكتيبة الموزعة في عدة مناطق، على خط سير واحد تقريباً. أما السرايا فتتوزع بين بناية " فتّال" و" نهر الكلب "وقرب "المجلس الحربي"، وسرّية رابعة في منطقة "الضبيّة"، سرية الهاون في " برج حمود"، والدبابات سرية ملحقة بقيادة الكتيبة.‏

تدور القصص والحكايات، والنكات في لحظات قدوم السيارة، قبل أن تتوزع العناصر، الذين يحمل كل منهم، ما جلبه معه من السوق من أدوات منزلية، وثياب وغيرها، فلا يدخل أي شخص بيته إلاَّ ويُسأل :‏

ماذا تحمل معك من بيروت؟‏

ورغم الدماء النازفة في شوارع بيروت، ونزوح الناس بمئات الألوف عنها، كانت تغرف من البحر وتسقي أبناءها. تمدّ يدها إلى السماء، تفتح ثغرات ومزاريب من الأمطار. أما جبالها، فكانت تحمل بقعاً من الحزن.. بقعاً ترقّط سفوحها، كمدافن. طلقة واحدة، أو قنصة من متمرّد تخرّب هذا السكون الذي يتحول إلى فوضى، وضجيج، وهروب في كل الاتجاهات. تنعدم صور الجمال. تتحول إلى لوحات ضبابية. تختلط ألوانها، ليس بإمكان أي فنّان أو عالم آثار أن يفصلها عن بعضها.‏

تنقطع المياه والكهرباء. عيون الناس ممتلئة بالحزن.. ينبعث ضوؤها عبر الجدران المثقوبة. رجال الموت يجوبون الشوارع، يتوزعون على سطوح الأبنية، يقطعون الطرقات الرئيسة، والفرعية، يربضون خلف تحصينات من أكياس الرمل. مرابض المدفعية مزروعة كأشجار سود، وراء القرى، والمدن، وفي بطون الجبال. صفارات الإنذار تعُلن للناس الانتقال إلى الأقبية.‏

إنها بداية لقتال ودمار، وحصار، وجوع، وعطش.. تختفي أضواء بيروت. الليل في مضجعه، وتقطع القذائف الشمس، وتبعثرها. . وتُدمي البحر. وتغسل الدماء الشوارع الأسفلتية. . تتصاعد في السماء أناّت، ويتعالى الصراخ والضجيج، ولا يسمعه سوى الله الساكن في السماء السابعة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:23

- القسم الثاني-

1-‏

برقية عاجلة " تمنع مغادرة المكان.. سنوافيكم بأوامر جديدة"‏

استنفرت عناصر الكتيبة بحالة قصوى. تمركز الجنود في حفرهم، خلف السواتر الرملية والسطوح. اتخذت قيادة الكتيبة الطابق الثاني مقراً لها، حيث تنتصب راجمات الصواريخ فوق سطح البناء.‏

انتشرت السرية الثالثة حول المجلس الحربي. عناصر الإشارة يتلقون التعليمات. أخذت فصيلة الدبابات موقعها. وجّهت سبطانات المدافع إلى المجلس الحربي والصيفي، والأشرفية. تجمّدت الشمس في قبّة السماء. . الساعات تمرّ ثقيلة. . طال النهار!.‏

أخذت عناصر الكتيبة مواقعها في ثلاثة اتجاهات، جنوباً وغرباً وشمالاً. . وتحمي القيادة من الشرق سرية من المشاة، ومن الغرب تسع دبابات.‏

الليل يجوب الشوارع، والأحياء المقفرة، الخالية. احترقت الأضواء. وما تبقى سوى أضواء خافته. القمر كهل، كشيخ يُلقي على كتفه زوادته. تحجبه غيوم عابرة، وزخات من المطر... طائرات ركاب عابرة. الجنود بلباس الميدان الكامل، يتحفزون لأية إشارة. . الساعات القادمة تبشر بقدوم أمطار نارية، ورعود صاروخية، واحتكاكات أسلاك الكهرباء..‏

سبطانات الدبابات والمدافع، ستحصد الجدران الأسمنتيه والبشر.‏

برقية عاجلة جداً " ساعة الصفر، الثانية عشرة ليلاً. استخدام جميع الأسلحة النارية". كان "قا.ك"في إجازته الأسبوعية. ورئيس الأركان ترافقه عناصر الإشارة، فوق سطح البناية العالية.‏

تُرسل أوامر القتال بالشيفرة عبر الأجهزة إلى السرايا وقيادة اللواء. القذائف الأولى من راجمات سلّطت نيرانها على المجلس الحربي.وجّهت الدبابات قذائفها، باتجاه الصيفي.. الأربيجيات" فتحت في الأبنية طاقات. .. حرائق أدخنة. نيران. تلتقي مع بعضها. شقّت طريقها من النوافذ والأبواب... صراخ وعويل وبكاء. نساء وأطفال، يجرجرون أقدامهم، يتلطون متخفّين بجانب الجدران، يتنقلون بين الأشجار. يحملون صرراً وبطانيات. الهواء المحمّل بالأمطار يتدفق صارخاً من البحر. حبال المطر المائلة تقفز قطراتها، وتنط فوق الإسفلت البارد.‏

قطّب رئيس أركان الكتيبة حاجبيه.. أشار إليَّ بالكتابة. " اكتب يا محمود برقية إلى " قال" أخذت مكاني خلف عمود الأسمنت، ويقف بجانبي مجند يحمل شمعة فستقية اللون... كتبتُ البرقية التالية :" نيراننا تحصد القوى المعادية. . نيران قادمة من البحر. لا خسائر حتى الآن بين قواتنا. . سنعلمكم بعد قليل بآخر التطورات على جميع المحاور". - "قا.ك"-‏

تحترق ساعات الصباح، وتطول، وحينما يشقّ الضوء الفضاء المجاور للبحر، كانت الطلقات تشعشع، وسيارات الإسعاف تصرخ بحدّة، ويمتد نعيقها على اتساع الأفق، فوق الماء واليابسة.‏

صرخة حملتها موجة هواء حزينة إلى السماء. طرقت أُذنيَّ ثم انقطعت. هبطت السلّم، أقفز الأدراج، ومدخل البناية، والطوابق مرصوفة بالجنود، وصف الضباط. وعلى جانبي الشارع المرّوع تصطف السيارات للرحيل!.‏

روائح كريهة تفوح، منبعثة من الشاحنة المحملة باللحوم والخضروات.. رائحة الخوف والموت تملآن المكان. وجوه حيرى. تركت السرايا أماكنها، وبدأ النهار يحبل بمواليد جديدة. جرحى يئنّون، وموتى في العراء. تركوا آمالهم في جوف بنادقهم.‏

حملتُ المنظار. ثبّته فوق عينيَّ. انطلق بصري يفتش عن " أبي ماركو" الذي بدا واقفاً وراء رشاش. تواجهه زخات من القذائف. لاتُحصى أعدادها. ينتقل من مربض إلى آخر. يتحاشى بصعوبة الطلقات الهاطلة فوقه. ينبطح، ثم يقف. يميل على هذا الجانب أوذاك. سلّمت المنظار إلى حيّان، مؤكداً له: متابعة رصد مواقعنا، ومواقعهم. أعْلِمْ القيادة عن أي طارئ أو تحرك جديد للعدو.‏

تنهّد. كادت الأنفاس المرتجفة تربكني.. فهمت منه "إصابة الملازم قائد فصيلة الدبابات"..‏

- نعم سمعت صرخة شقت الفضاء!.‏

- قنصة غادرة استقرت في صدره.‏

- أصابته حينما حاول الانتقال من دبابته إلى دبابة أخرى.‏

- لماذا؟.‏

- كيف يتحرك والقذائف الغزيرة كالمطر تئزّ، وتلفّ الفضاء.‏

لا أدري، وإنما هذا ما حصل!‏

- علمت أنه كان يجهد من أجل مساعدة قائد الدبابة الثانية، لفك حالة الاستعصاء.‏

- وماذا جرى بعد ذلك؟‏

- مازال ينزف وينزف، ولم يستطع الطبيب إنقاذه.‏

- إذا، عبد الستار، الملازم النشيط، الشجاع. يكاد يفارق الحياة!‏

- لاتقل ذلك، ولكن الطبيب يعمل بكل إمكاناته لإنقاذه.‏

-لكنه، كما سمعت يحتاج إلى عملية جراحية.‏

- معك الحق. . الطبيب غير مختص بالجراحة.‏

فما دور سيارة الإسعاف؟‏

- كيف تصل إلى المنطقة الغربية؟.‏

- عن طريق " البور".‏

-والحواجز المسلحة!.‏

كان حيّان يؤشر بيده، ويصرخ ملء فمه. . محمود. . محمود بين الازدحام والاختناق البشري، والموت، والأنين، والغوغاء، والروائح الكريهة، ولكني فقدت السمع، استدركت متأخراً. صعدت السلّم الطويل درجتين درجتين.‏

برقية عن نتائج معارك النهار. فتحت لوحة الشيفرة. رمّزتُ الكلمات التالية وُصغتُ البرقية: "استشهد الملازم عبد الستار أُصيب بجروح بليغة، أربعة جنود. الطريق مقطوعة. لم نستطع إخلاء الجرحى. فَقَدت كتيبتنا ثلاثة جنود من سرّية الإشارة - وهم من الاحتياط - في اليوم الذي سبق المعارك، بسبب مخالفتهم للتعليمات".‏

- مَنْ هؤلاء الجنود. ألا تعرف أسماءهم؟‏

-إنهم من الاحتياطيين.‏

كيف فقدوا.‏

لم يلتزموا بالأوامر. خرجوا باتجاه الشارع الخلفي. يُقال إن جثثهم مازالت هناك.‏

ظلام وعطش، وهواتف مقطوعة. تشويش على أجهزة الإرسال. . وجود إسعافات أولية للجرحى. .. عبد الستار، الملازم الشهيد، جثّة صامتة فوق لوح خشبي.. يغطيه شرشف. . تتابع مدافع الدبابات القصف، متناوبة في إلقاء القذائف.‏

يتحرك حيّان كلولب بين الحشد البشري، يصعد وينزل كالمكوك، ويتفقد وصول السرايا والفصائل، والخرائط، والتعليمات السرّية للغاية، والكتب العسكرية، وكل شيء.‏

- ماذا نأكل يا حيّان؟ لاخبز، ولا برغل! ولا. . ولاشيء يسد رمقنا!‏

-لا تيئس. ستنفرج قريباً!‏

- إنها حالة صعبة، يمكن أن تستمر أسبوعاً آخر!‏

- هل تصدق أن القيادة لا تؤمن لنا الطعام!‏

- ستحاول بأية وسيلة.‏

-أذهب ياحيّان. . ثلاثة أيام والجوع يفرم مِعَدَنا. .. أذهب وفتش في براميل القمامة عن الخبز اليابس.‏

-لا يامحمود. . أبقى دون طعام ولا أقترب من البراميل.‏

- لماذا؟.‏

- وجود فئران، وجرذان حيّه وميتة.‏

- الجوع. . الجوع اللعين، وإذا جاع الإنسان، ماذا يعمل؟ وماذا يأكل؟‏

- الحالة صعبة، قاسية جداً!.‏

- الله كبير! سيفرجها!.‏

وإذا لم تنفرج!‏

- سنرى!‏

- نصوم!‏

ارتفعت حرارة الليلة الثانية. نداءات الموت صارخة. قذائف من أنواع مختلفة. . البناية طرزتها الطلقات. .. أصبحت كالغربال، مما يذكرني بـ " غربال نعيمة " سيتغربل الناس في هذه المعارك!‏

- هل تلاحظ أن عدد المصلين يأخذ بالازدياد؟‏

- الخوف. . الخوف من الموت. . الحياة غالية.‏

- بعضهم يقرأ الفاتحة.‏

- وأنت!‏

-قرأتها مرة في الكرنتينا، حينما كانت نهاية سمر.‏

- أكره يا صاحبي تواريخ الموت. . أكره رؤية القذائف والرشاشات والرصاص، وموسيقا الجنازات. . مسلسل أحتفظ بشريطه منذ سنوات. . سنتان تسكنان، وتقبعان في قلبي وداخلي بكل ما تحتويان من حلاوة ومرارة ؟، من مجازر مهلكة، موت بالجملة. . الآن حين ألمح الدماء، كأنني أحرّك حبّات سبحتي بين أصابعي.‏

- ألم تحزن؟‏

- كبقية الناس، لكني أكره الموت والجبناء.‏

- ما موقف " أبو ماركو" وهو من منطقتكم ؟‏

- يقاتل برجولة، وتفانٍ دفاعاً عن عائشة. لم يغادر موقعه. وفوّت الفرصة على مجموعة من المسلحين المتسللين، وأعطب " ملاّلات" تابعة لحزب الكتائب.طُبعت عليها نجوم سداسية.‏

وفي منتصف الليل، برقية عاجلة من (قال) هذا نصّها :" سيتوقف القتال في الساعة الثانية عشرة والنصف ليلاً.. التزموا بالأوامر، والتعليمات. سيكون ضابط الارتباط عندكم في تمام الساعة الرابعة صباحاً. ستتلقون تعليمات جديدة. بعد نصف ساعة"‏

تساءلت: كيف وصل "قا.ك" من دمشق في هذا الوقت؟ تجنبتُ سؤاله، عن كيفية وصوله. لقد نزع الرتب عن كتفيه. ينمُّ وجهه عن أمر ما حصل له، لكن، بعد أن شربنا الشاي، وبللنا الخبز اليابس الذي جلبه حيّان من البراميل، ظهرت ابتسامة عريضة، أنيسة فيها عزة النفس - فوق ثغره! طلب إعادة قراءة البرقية. قرأتها للمرة الثالثة. لم يصدق ماذا يحصل! همس :" أمَنْ المعقول أن القتال سيتوقف بهذه السرعة؟"‏

هنأه رئيس الأركان بالسلامة أولاً. . تابع طالباً منه استكمال ماجرى معه. اقتربنا منه، وتحجرنا حوله "أنا وحيّان، وعناصر الإشارة والحاجب "السواس" "قال: "وصلت إلى مقرّ الكتيبة بصعوبة. تسللت من بيروت الغربية بين الطرقات. والزواريب، والزوايا. حاولت الابتعاد عن الحواجز المسلّحة الثابتة، مررت على بناية "فتّال" فوجئت بفراغ المكان، ومغادرة السرية. . مساند رملية ودواليب سيارات تحترق. . هذا ما جرى. . وسأخبركم بما تبقى من مشواري في الأيام القادمة إن سمح لي الوقت".‏

برقية جديدة :" احتجزوا الشاحنات المدنية، وقبيل طلوع الشمس ستنتقلون إلى مكان آخر. لا تنسوا الشهيد عبد الستار، والجرحى. أنقلوهم في سيارة إسعاف".‏

تبادلنا الحديث والمشاورات. هبطت أنا وحيّان إلى طابق الثاني. جهزنا الخُزن والأسرّة، والبطانيات، وأشياء عديدة.‏

وفيما كان الصباح يعزف لحناً جنائزياً، كان رتل طويل من الشاحنات والسيارات الصغيرة، يستعد للتحرك والرحيل. استمر القنص، ولم يتوقف طوال ساعات. رافقنا طوال المسير فوق طريق محفرة. قطعت السيارات جسر نهر بيروت - تتقاطع في هذه المنطقة عدة جسور - سلك الرتل الطريق المؤدية إلى برج حمود، وتتفرع منه طريق ثانية إلى منطقة "الدورة ". تطلّ "الأشرفية" علينا و" كرم الزيتون " يواجهنا. أبنية فوق مرتفع تشرف على الطريق الذي يربط نهر بيروت بجسر الموت!‏

-2-‏

ربطات الخبز الأبيض المقمّر كانت هدية سكان "برج حمود"، غالبيتهم من الأرمن. . هذا رمز لصداقة قديمة تعود إلى أيام السفربرلك!‏

التفتُّ إلى حيّان. . ابتسم. . أشرق وجهه، كغير عادته! وهو يُدخل نصف رغيف في فمه دفعة واحدة..‏

- مارأيك بهذا الخبز الذي يعوّضنا عن جوع الأيام الفائتة! لا نريد سوى الخبز"الحاف" دون لبن أو بيض. سنملأ بطوننا ونشبع. . ثلاثة أيام من الجوع والسهر والموت البطيء.‏

توزعت الشاحنات والجنود على الأبنية، كنصف قوس امتدّ من البحر حتى برج حمود. أخذت السرايا مواقعها الجديدة. بقايا رائحة بارود. . طلقات متقطعة. . صدى قنص من المناطق المجاورة.‏

كان الليل يغطي جميع المقتتلين. توقفت الأمطار. انتشر الدفء القادم من الحرائق ومن البحر والسماء وحديد السيارات والقلوب والرؤوس. العرق يجف فوق أجسامنا. ملح البحر يمسح وجوهنا وجلودنا.. بذلاتنا العسكرية تقزز النفوس.. لحانا طالت وتدلّت كسولة ملبّدة بالعرق والغبار والملح والبصاق. التصقت جواربنا بجلود أحذيتنا. . هكذا وهكذا . هذا ما حصل، ولا أحد أحسن من الآخر!.‏

تسللنا إلى شركة "التبريد" المهجورة. . شركة تتسع لجيش جرار.. طوابقها معتمة زوابع من البعوض. أفواج تأتي، وأخرى تهاجر. مياه آسنة. راقدة أمام الشركة. رائحة عفونة ورطوبة قاتلتين. . لكننا عندما صعدنا إلى السطح الواسع، كانت النسمات الغربية تحمل الهدوء والراحة، وبقايا قطرات من الدماء، وأنفاس ثكالى، وأنيناً، وأوجاعاً لم نعرف مصادرها.‏

أخذ القمر الجميل يؤنسنا، وديعاً، مسالماً، يفيض بالحب والحنان. يزيح الغيوم من طريقه بيدين جريحتين، واهنتين. يبعث ضوءه الخافت، وتطوقه أدخنة، وشظايا، وطلقات فارغة، وقذائف مدفعية ثقيلة، وصواريخ، وحمم تحرسه نجوم مبعثرة، موزعة في قبّة السماء. وعلى أطراف الغيوم وذيولها، خرائط، وبين كتلها المتراصة والمتباعدة مدافع، وراجمات، وخوذ جنود، وسواعد مقطوعة، وأصابع مفرومة، وأكفّ أطفال، وعيون ملوّنه، وجثث محمولة فوق حمّالات، جنود يصعدون سلّم المجد إلى السماء. عجائز وأطفال من حيّ الأرمن يحملون الخبز، يوزعون العشاء لضيوفهم، وهم يضحكون ويهمسون بكلمات الترحيب. ليلة هادئة، مسكونة بإشارات الانفجار القريب.. استراحة قصيرة للمقاتلين.. استجمام مؤقت بعد ثلاثة أيام من القتال.. هجم النوم في هذه الساعات، وكانت الأرض فراشاً مُريحاً. . أجساد مُنهكة، تلفّها بطانيات لم تتعرض بعد للاحتراق.‏

وضعتُ حذائي تحت رأسي. تعالى الشخير.. الحراس على مداخل الشركة.‏

ثُبّت رشاش " 14.5مم" في منتصف الشارع المنحدر نحو " الدورة " وصواريخ، ودوريات محمولة وراجلة تجوب المنطقة من البحر إلى البرج.‏

الصباح يشرق، ويشدّنا الدفء والحبّ من أهدابنا. نهضنا نحمل أسلحتنا. قنصٌ يداعب الشمس. تندس الطلقات السامة بين خيوطها المربوطة في قلوبنا. ظلت محاور القتال تتبادل التحيات من قذائف مدافع الهاون، والرشاشات. سيارات تنقل المدنيين، وتمرّ من "برج حمود" باتجاه " المجلس الحربي". مئات ومئات الشباب " ذكور - إناث" - زوارق حربية تعوم فوق البحر. تراقب الشواطئ والأبنية تقترب من مواقعنا.‏

عاد القتال شرساً. تدوي القذائف، يرتطم صداها بجدران الأبنية. كان الجنود يملؤون الأكياس بالرمل، وينقلونها إلى مواقعهم. يحضرون صناديق الذخائر. يأخذون أمكنتهم بهدوء.‏

توزعت مرابض المدفعية بين الجسور. حدّد كل مدفع اتجاه سمته. أما الدبابات فربضت موجهة سبطانات مدفعيتها إلى البحر. قبعتْ في حفر. لا تظهر إلاّ فوهات المدافع. . وحولها تكدّست صناديق القنابل بعناية وترتيب.‏

أوامر شديدة، بعدم الردّ على القذائف القادمة من مختلف الاتجاهات. استغلّت عناصر الكتيبة هذا الموقف، لتنظيف الأسلحة، وتزييتها، وتوزيع المهمات القتالية. بدأت عناصر المطبخ تُحضر المواد، وتوزعها على السرايا " علب لحمة وفاصولياء، وأحجار فوسفورية"، لتسخينها. تمَّ الاستعداد والجاهزية العالية، مما يبعث في نفوسنا الأمان والأطمئنان، خاصة بعد تأمين الخبز من "برج حمود".‏

قلتُ. . تبادلتُ الحديث مع نفسي :" هذه المنطقة أقرب إلى جسر الموت، سيكون الرصد دقيقاً، وصائباً. كنت أجرّب، محاولاً رؤية الجسر من نافذة ينبسط أمامها نهر بيروت بجوانبه الأسمنتية التي تحتضن أوتوستراداً عريضاً".‏

سأرصد جسر الموت حتى آخر ساعة، فما دامت المعارك قائمة ومستمرة، سيرافقني المنظار كصديق في هذا الوقت الملتهب.. ومادمت في بيروت الشرقية، سأرصد محاور القتال والمناوشات.. هذا الجسر يشكل منطقة التقاء ومقبرة جماعية. اغتسل بالدماء. انبطحت وارتمت فوقه عشرات الجثث، ومن مختلف الأعمار والجنسيات. .. أصبح مدفناً مكشوفاً دون سقف أو جدران سوى السماء البعيدة البعيدة، جثث متفسخة عشش فيها الذباب والحشرات والديدان تحرثها تغوص بين اللحم والأضلاع، والسيقان والسواعد.‏

هذا ما تمَّ رصده الآن من موقعي في "برج حمود"، ومن نافذة في شركة التبريد‍.‏

-3-‏

يرافقني حيّان في مشواري الطويل. لايمكن، ومهما كانت الصعوبات أن يتخلّى عني، وأنا كذلك. رسمتْ صداقتنا صوراً من الجوع والقحط والخوف، خرائط من المحبة.‏

كان حيّان كالدولاب ينتقل من سرية إلى أخرى. يجلب الأخبار. يتابع الرصد. أصبحت صداقته مع / أبي سركيس/ متينة وصلبة، وقوية.‏

تعرّفت على قصة حياته من أولها إلى آخرها. كفى يا حيّان، كفى أشبعتني قصصاً، وحكايات، لكنها كانت مشوقة ومحفّزة للاستماع، والإصغاء، كأنك عجّانة ماهرة، تصفّ الكلمات، وترصف الجمل المحبوكة بعناية ومهارة فائقتين، كما تصفّ العجّانة أقراص العجين. تمهّد للقصة كأديب بارع. إنك صاحب ذهنية وقّادة. . أنت الآن على نار حامية وحارة. أعرف لماذا تدخّن كثيراً، وتبتسم، ويتراقص شارباك الكثيفان، وعندما تضغط بشفتيك على كعب السيجارة تنهض وجنتاك، وتتسع غمازتاك كبيضتين صغيرتين.‏

بهدوء ودون استعجال عرف ما يدور في ذهني من شوق للاستماع لحديثه.. وتابع.. أبو سركيس أمضى عشر سنوات في حلب بعد هجرته من تركية. طفل رفس الموت صدفة، بعد أن حصدت المجزرة اللعينة أكثر من مليون أرمني. حملته إحدى العائلات معها، واستقرت في حلب الشهباء، ثم أصبح شاباً وسيماً، يعمل في إصلاح السيارات. ها هو يبلغ من العمر الخامسة والستين. تزوج وأنجب صبياناً وبناتاً. البنتان تزوجتا. أما الولد البكر فسافر إلى امريكا، والولد الثاني ذبحته إحدى العصابات. عمر زوجه نحو خمسين عاماً، ولكن مظهرها الخارجي لا يدل على هذا.‏

عند وصولنا إلى "برج حمود" كان الملازم هشام قائد السرية الأولى ينزف بسبب قنصة مميتة استقرت في الجهة اليسرى، وقنصة ثانية اخترقت بطنه واستقرت بين فقرات ظهره. حاول أبو كيس إنقاذه، فنقله إلى عيادة طبيب في برج حمود، لكن الموت كان سبّاقاً!‏

أُصبت بحزن عميق لأني أعرف الأثنين، وأنا الذي نقلهما، وأحضرتهما إلى "قا.ك"، حينما التحقا بالكتيبة، إنهما من الدفعة الأولى " دورة السنوات الثلاث". أتذكر أنهما عندما وقفا أمام "قا.ك" وأدّياله التحية بقوة، حينئذ طلب منهما "قا.ك" تكرار التحية لأن الأرض لم ترتجّ من ضربة أقدامهما فوق البلاط النظيف اللامع.‏

أضاف حيّان قائلاً: إذا لم يشرب القهوة مع أبي سركيس كل صباح يظل ينتظره حتى المساء، فيحضر له العشاء وبعض المشروبات. ولاتستغرب فالمشروبات مع الطعام شيء عادي جداً في بيروت. وإذا لم تشارك يضحكون منك، ويسخرون، لكنني لا أُكثِر، فعندما أبلغ النشوة الأولى أتوقف.‏

تمرّ الأيام حلوة، ومرّة. . الشوارع رطبة، الأبنية متباعدة، ومناظر الجسور تمتّع الرؤية. . لقد منح الشتاء - وله الفضل نهر بيروت- الماء، فامتلأ المجرى. وكان الربيع يرسم خيوطه الخضر صباح، مساء. أخذت الشمس تظهر، فلا أدخنة، ولا حرائق.خرجنا نتدفأ بعد شهر ونحن في هذه الأقبية!‏

تساءلتُ : متى يُسمح لنا بالنزول إلى دمشق؟ طوال هذا الوقت ونحن نحيا بالأمل. كدتُ أنسى أهلي. ولم تَعدُ تتوارد إلى أذهاننا صور مدننا وقرانا الجميلة، وزوجاتنا وأمهاتنا. يفقد المرء قلبه، وعاطفته ويخسر أحلامه وأشجانه.. إنها حالة صعبة تتخللها مرارة وحرمان. أرى مواقد الحزن، والهمس الداخلي اللعين، خاصة حين يأتي المساء لاهثاً، محملاً بالغبار رديئاً، جاثياً فوق أفق الليل، تزدحم الأفكار المجنونة، وتتصاعد حاملة خلايا ميّتة، ودوائر، وأشكالاً هندسية، كفنّ تشكيلي معقّد.‏

صورة موجعة وقفت ولم تتزحزح. _ والدتي تقلّب طفلتي الصغيرة بين يديها. تقطر من عينيها دمعتان".‏

أعرف أُمي. قلبها طري كالعجين. تمتص اللوعة دون ضجة، صامته. تكدّس في قلبها وصدرها الأوجاع، كذلك أُمّك ياحيّان! قلب الأم لايبخل بالعطاء، وهل نحن هنا ندافع عن أُمّنا؟‏

أجواء أخرى أقلّ بشاشة وحبوراً تطغى علينا. الوجهان واجمان، كدفتي زورق، تقاومان الأمواج.. الشمس في هذا اليوم تودع الأبنية والمقاتلين والبحر. تهاجر مع الناس الهاربين من ويلات الحرب إلى بلاد بعيدة. قفزت أشعتها فوق السفن والبواخر.تركت بقعاً كبيرة من الألوان الخمرية، ترسم فوق الأفق إشارات وأشكالاً.‏

يلوح الغروب بلحظة الوداع. يهبط قرص الشمس. تعلّقت أبصارنا بالأفق الممتد الذي يحتضن بيروت، بدفتيها الشرقية والغربية. موسيقا تهطل علينا مع زخات المطر الربيعي. ينشر الليل دفأه الحالم. يوزعه على الجنود الرابضين وراء أسلحتهم بين أكياس الرمل..‏

وكان الشاطئ يتمنى أن يُغطس في رماله أقدام العشاق. وآذان الصخور تتفتح. تُصغي إلى صوت الموج الذابل في خدوشها. ترتطم مُنهكة القوى. تغادر البواخر مودعة، تحمل المغادرين. ولم تبقَ إلاَّ الأمهات، يحملن المناديل السود. تغطس في وجوههنَّ العيون المتفجرة الحالمة بعودة فلذات الأكباد.‏

تدور رحى الحرب من جديد. يسيل الدم. تتفسخ الجثث. يصلب الأحياء. وتقطع آذانهم، وألسنتهم. وتُنتهك الأعراض. تغتصب الفتيات الأبكار أمام أهلهنَّ. يصطف الأطفال بجانب ألعابهم الحربية، ويستمر إغلاق المدارس والجامعات.‏

نهض حيّان يتثاءب، حينما سمع دوياً مرعباً. حمل سلاحه، ومنظاره وبدأ يرصد من فتحة ضيقة، يلاحظ ما يدور بين الأبنية، وأحياناً يدوّر المنظار نحو النوافذ التي مازالت أنوارها الخفيفة وراء الستائر الشفافة. يدور ويتحرك، ثم يرفع المنظار عن عينيه ليتأكد من أمر ما. يكون الليل أنيساً رغم القذائف، ويخفف عنّا متاعب النهار.. وأنا أدفن قلقي وضجري، شريطاً من الصور بين دفتي قلبي. يتابع حيّان حراسته. يفتش بين طيات السكون عن تسلية. يتمنى مثلي أن يصرخ بصوت عالٍ. أن يخترق صوته الفضاء حتى يستيقظ الكسالى ويتوقف الشخير، لأن القتال ابتدأ شرساً‍‏

-4-‏

دبابة تصعد ملتوية بجسمها الثقيل فوق جسر الدورة. أطلقت عشر قنابل متتالية. . المرة الأولى التي أكون فيها قريباً من مركز إطلاق القذائف.‏

اعتقدتُ أن العالم تغير، وأصبحت بيروت جزيرة في البحر. طلقة هادرة كطوفان أصابت صورة تغطي نصف البناية، مثبته بحاملين. تواترات الطلقات، وتتابعت. ازدادت حدّة القتال. وكان تمزيق الصور وتقطيعها أحد أشكال التحدّي والمواجهة. وتكاثفت نيران القوات اليمينية من الاتجاهات كافة. تراجعتُ إلى مكاني. وضعت وجهي في النافذة، أراقب السماء المشتعلة، والقذائف المتساقطة. . أقواس من اللهب. دخان يتحلزن. يفتح دروباً، متجهاً نحو السماء. تدفعه هبّات الهواء باتجاه البحر.‏

بيروت ساكنة، يعتصر قلبها، جاثية، كأنها تصلي. ساقاها يغطسان في مياه البحر. يداها مفتوحتان، لفت نظري دبابة تتراجع بعد أن نفذت مهمتها بنجاح. انحرفت نحو اليمين. هبطت خلف الجسر. جاءت واقفة تمد ذراعيها تطلب النجدة. وبقيت نائمة وفي حالة نزف ثلاثة شهور منتظرة من ينقذها من هذا المصاب.. وحين خرج طاقمها سالماً، تبددتْ شكوكنا، لكن تساءلنا : كيف خرجوا سالمين؟‏

اندفع عشرات الجنود، وصف الضباط. تجمهروا. استمرت طاحونة المعارك بشراسة، ونحن ننقل المصابين بجروح إلى أحد الأبنية القريبة.‏

سألت سائق الدبابة " شربو" : كيف تنحرف بهذا الاتجاه؟‏

أنت الذي ترك الخابور، ولبّى نداء الاحتياط‍‏

- زاغت عيناي أيها الرقيب محمود.. أصابني الغثيان. وكان اعتقادي أنني أتراجع في الاتجاه الصحيح.‏

- الحمد لله على سلامتك.‏

مرت لحظات ساخنة، مفاجئة حينما أصابت الطلقات طفلين كانا يقطعان الجسر. الدماء تنزف من ساعد الطفل الأول. أما ساق الطفل الثاني فقد انكسرت.‏

يوم حافل، وعمل مضنٍ للممرض الذي لم يبخل بالجهد والدواء، ثم نقلهم بالسيارة إلى برج حمود.‏

كان حيّان يسجّل البريد الوارد والصادر. أشار إليَّ بإدخال مصنّف البريد إلى "قا.ك".‏

فعلتُ كما أراد، ونفذت طلبه، ولا يمكن أن أخالفه مع أن بإمكانه تنفيذ هذا العمل الجماعي في حالات القتال والحروب تذوب الفوارق بين الرتب الأفضلية للتعامل الأخوي والعمل. تتراص القوى أمام الأخطار، حتى الموت في مثل هذه اللحظات يقفز من الذاكرة، ويهاجر بعيداً.‏

كالعادة بعد أن طرقت الباب. أديت التحية. قدمت مصنف البريد. كان رئيس الأركان جالساً بجانب "قا.ك". يبسط أمامه خريطة بيروت ذات مقياس كبير مُحمّلاً عليها مواقع القوى المناوئة. تظهر عليها الشوارع والمحلات والأسماء "شارع فارس الخوري -شارع الجميّل - بناية شمعون".‏

تعبتُ كثيراً حتى أنجزت هذا العمل، خاصة تثبيت مكاتب الأحزاب" الكتائب - الأحرار -حرّاس الأرز"، وأهم المواقع المؤثرة، والحساسة " الصيفي - المجلس الحربي- بناية البرج في الأشرفية".‏

قلّب " قا. ك" البريد الوارد. توقف مليّاً عند قراءته للبرقية التالية: "غداً سيفتح باب الإجازات للذين مضى على وجودهم في بيروت ثلاثة أشهر".‏

رفع رأسه. حدّق في نائبه، وهو يقول: " هل تصدّق؟". تأكد يارقيب محمود من هذا الأمر. واهتف إلى القيادة‍‏

- حاضر سيدي: ثم قدمتُ إجازة لمجند في الذاتية " قرية شبعا في الجنوب" ضحك ساخراً.. - الجنوب ثانية يامحمود‍‏

- لا علاقة لي بهذا الأمر، ومن حقّه أن يحصل على إجازته‏

-كفى‍‏

أعاد إلى جيوب ذهني، وذاكرتي الممصوصة، الأمر الإداري، عندما نُقلت فجأة من الكتيبة المتجهة إلى صيدا. وتابعت قائلاً: هناك في الجنوب قتال ومواجهة، وفي بيروت الشرقية أيضاً قتال ومواجهة‍‏

- ماهو طلبك الآخر، والأخير. . أسرع لأن ورائي أعمالاً كثيرة!‏

-أريد إجازة قصيرة لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة.‏

- لماذا ؟‏

- من أجل إجراء المقابلة الشفوية، وتحقيق النجاح في المسابقة لحملة الشهادة الجامعية.‏

وقف "قا.ك" كأنه يستقبل رتبة أعلى من رتبته!‏

-أتعتقد أنك ستحقق النجاح؟!‏

- تقدمتُ إلى هذه المسابقة أسوة بزملائي. ودرجتي العلمية تؤهلني..‏

-ستُرفض حتماً!‏

- إذاً، ما العمل! ألا أستحق، كوني مواطناً، العمل في مؤسسات الدولة!‏

ولم أفهم ماذا تمتم من كلمات، وجمل مقطعه. شعرت أن غيمة حزينة تمسح أوجاعي بأصابع قاسية، وجافة. . قلت في نفسي" لا يكفي أن الفقر لاحق والدي حتى القبر، وأمضّ سني حياته خلال أكثر من ستة عقود. كان يهرب من سنوات القحط إلى فلسطين قبل طلوع الشمس".‏

خطيئة والدي تلاحقني أيضاً حتى الممات، لأنه كان يرفض المساومة، وأنا لن أساوم أبداً، سأترك الأمر للقدر، وقد أؤمن بالحظ أيضاً.‏

بدأ الاثنان يتهامسان " رئيس الأركان وقا.ك"، ثم طفحت فوق وجهيهما ضحكتان ودودتان.‏

دخل الحاجب " السواس" يحمل الشاي، ولحق به الممرض. رفع "قا.ك" قميصه، وظهر جرح في بطنه. . غيّر الممرض الضماد، وانسحب، وتركنا !‏

- هل يؤلمك الجرح سيدي؟ هكذا قال نائبه.. لا.. لقد مضى عليه أكثر من شهر، لكنه بقي مفتوحاً، بسبب الحركة والتنقل، وصعود السلالم.‏

استدرك. . وهذه تتمة القصة! وسأكملها لكم. " حينما وصلت إلى المنعطف، أردت النزول إلى رصيف الميناء. أوقفني حاجز من المسلحين. وقبل أن يسألوني عن اتجاه سيري، ومَنْ أكون، أطلق أحد المسلحين النار فتراجعت إلى الخلف قليلاً، مما خفف الإصابة، وحين تعرّفوا عليَّ، تركوني".‏

عدتُ إلى مكاني بعد جولة سريعة من المعارك الكلامية والمناقشات. كان حيّان يرصد فتحة "ثغرة" بين حيين في برج حمود، يمكن أن تشكل خطراً علينا. وطلب مني أن أرتاح هذه الليلة من المناوبة، ورغبة منه في متابعة التلصص بعد منتصف الليل، في أجواء هادئة وساكنة!‏

عرفت قصده وماذا يفكر " تختفي وراء الستائر الشفافة نجوم، تتراقص فوق أسرّة دوّارة"، تختلف عن أسرّتنا التي ما إن يستلقي عليها المرء حتى تحدثُ صريراً، وأصواتاً مزعجة، وأحياناً تلعلع كالرصاص. رغم الحرب اليومية وحوادث القتل والموت، والخراب، والدمار، نراهم يستغلون الوقت، عندما يتوقف القتال ويذهبون إلى النزهات. يأكلون أفضل المأكولات، ويشربون أطيب المشروبات. ينامون على أسرّة مخملية دوّارة، وأجسادهم عارية.‏

أكدّ لي حيّان من خلال رصده الطويل، أنه شاهد عروسين في شهر العسل يتعاركان، ولم يرَ غيرهما في المنزل. كان زفافهما قبل وصولكم بأيام.‏

وفي اليوم الثاني سأل حيّان أبا سركيس، فأكدّ له صحة حديثه قائلاً "لم يمضِ على زواجهما سوى فترة قصيرة وأشار إلى الكنيسة التي تهدّمت قبّتها. هنا تمَّ زفافهما! "‏

هكذا، ياحيّان أشعر أن صمتك يُخفي أشياء كثيرة لاتريد البوح بها. أنت تستمتع في رطوبة الليل وهدوئه، لكنك ستبقى محروماً زمناً طويلاً. ستظل اللوعة تصدّع روحك، وتحرق قلبك، ويدوس الحرمان على أضلاعك..‏

ضحك ببرود، والرذاذ يتطاير من فمه. . أجابني، وهو يمسح لعابه:‏

حدثني الحاجب " السواس" عن أمور كثيرة " أفلام دعارة، وألبومات صور، نساء عاريات". أيقنتُ انه يبالغ، ولن أصدّ ق هذه الأقوال.‏

ساد الصمت. وجوهنا واجمة. تتلذذ بسماع الأخبار الجديدة.‏

وكانت رائحة البرغل تملأ الأنوف. النهار يولد في كل ساعة، ويظلّ الليل يحبل بالآلام والأوجاع.. تمر الأيام متسارعة، راكضه، لانستطيع اللحاق بها، لكن الذكريات لن تموت.‏

لن تموت الذكريات المجبولة بالعرق والسهر والتعب والخوف. يبقى اليسار يقاتل في الجنوب، ونحن نقاتل اليمين، بعضنا يساري، وآخرون يكرهون اليسار واليمين والوسط. آخرون يدّعون أنهم أقرب إلى الله من غيرهم، وقت الشدة، فيكسرون زجاجات المشروبات، لكنهم في المقابل يبيعون ( ورق الشدة ) إلى تجار بيروت الغربية. آخرون يتسابقون إلى الموت، فهذا قُطعت يده، وذاك يُقتل بسهولة. وهذا " عدنان" الجندي المتطوّع تقتله قنصة عندما كان يتأمل الحياة في ذاك المساء، وهو واقف أمام شركة التبريد، يحدّق متفائلاً. يحلم بإجازة طويلة أو بلقاء حبيبة، لم يره منذ زمن، أو يفكر في أمُّه الوحيدة في قرية نائبة‍‍! حتى هذا التاريخ كان التموين يؤمّن ذاتياً عن طريق الأسواق المحلية في برج حمود، أصبح أبو سركيس مسؤولاً عن شراء مئة ربطة من الخبز يومياً. وبلغ عدد الشهداء ستة، ثلاثة منهم بقوا في العراء، ودُفن ثلاثة في أرض قريبة من الكتيبة، حينما يأتي موعد تبديل القوات سيُنقلون مع العائدين.‏

أصبح القنص أمراً عادياً، ولم نَعُد نُصاب بالارتباك منذ الآن. تعودنا على أصوات القناصات والمدافع والقذائف الصاروخية. ننام طوال الليل، ومهما ارتجّت أرض البناء والشرفات نظل نياماً حتى الصباح، ولايبعث في نفوسنا الألم والحزن، مشاهدة القتلى والجرحى، ومن كثرة ماروعتنا المعارك والقتال، بأشكاله المختلفة، خلال الشهور الماضية.‏

فاجأني حيّان بهذا الخبر، وأرهق مسامعي وهو يردده، فرحاً.‏

" فتح " المبيت" أبوابه، وستكون دفعتنا الأولى. فقد مضى على وجودنا نحو أربعين يوماً، ونحن نشمّ روائح صادرة عن الأموات ومن الأحياء"‏

السفر إلى حلب بالنسبة إلى حيّان يعني الكثير، فهو أصغر اخوته ومازال عزباً، وتفكر أمّه بأن تخطب له ابنة خالته.‏

دافع حيّان عن نفسه أمام أهله، وأهلها، وأصدقائه، مدّعياً بأن أنفاس سمر تحاصره، حصاراً شديداً، وأن ابنة خالته بمثابة أخته.‏

كان الصباح وردياً. اختفت أجواء الحرب.. روائح عطرة يقذفها الهواء من كل الجهات، وتختلط زرقة السماء بزرقة الأمواج.‏

بواخر قادمة تزعق زعيقاً موجعاً كالبوم، تدفع أمامها كتل الماء،بواخر تغادر الشواطئ نحو جزيرة قبرص.‏

بدلتُ رائحتي حينما اغتسلت. خلعت بذلتي العسكرية. أغلقت عليها محفظتي الجلدية. ذقني حليقة، ناعمة. فرحة السفر أنستني أوجاعي وهمومي، وحرّكت كوامن هواجسي الدفينة في أعماقي. أحضرت من الدكان القريبة دزينتين من الزبادي والكاسات، تفقدت حوائجي ومشترياتي. همست في أذن حيّان " مرحباً يادمشق سيستقبلني الربيع بعد أن أتجاوز الحدود. تهتف الأشجار المنتصبة على جانبي الطريق، بقدومي. بردى يضحك، ويغني، بعد ذوبان الثلوج. تهبط مياهه هادرة من " الزبداني"، عذراء، لايعكرها سوى الذين يغسلون أجسادهم العفنة فيها، أو الذين يغسلون أوعيتهم، وثيابهم النتنه".‏

سألت حيّان : هل تتمّ هذه الرحلة ؟. بينما كنت أسرح، وأمرح مع أفكاري وأحلامي الساخنة، سألته هذا السؤال، لكنه كان مثلي يغرق في بحر من التأملات.. أجابني : - أعتقد بأن عقبات جديدة ستحول أو تقف في وجه رحلتنا. وسنفقد جمال هذه الأفكار الراقصة في قلبينا..‏

- ألا ترى الأجواء والفضاءات، هادئة، صافية !. أجواء بيروت يا محمود تتقاطع مع شاطئ ملوث، وكلما ظهرت غيمة في السماء، سرعان ما تفرغ حمولتها من الأمطار، وسرعان ما تتغير حالة الطقس. ألا تشاهد مثلي، " الدُشم" المزروعة في الجانب الثاني من النهر! ألا ترى أنها فارغة فلا يوجد فيها إلاَّ أكياس الرمل، فلا رشاشات أو قناصات. كل الأشياء اختفت من الواجهة المقابلة لنا، لكنني غير مطمئن، فهذه خدعة. . أنظر جيداً وركز المنظار، ثبته إلى رأسك، ووزع بصرك، ألا ترى السيارات المحمّلة بالرشاشات، والتي تدور في كل الاتجاهات..‏

تحركت سيارة المطبخ لجلب حصّة الكتيبة من المؤونة. استنفر الجنود، ووجهوا أسلحتهم إلى الخط المعادي، المواجه لنا، حتى إذا قطعت حدود الكتيبة، ستُطلق النيران بكثافة، حماية لها، إلى أن تتجاوز نقاط الخطر، وبينما كنّا نتحلّق فرحين حول سيارة "المبيت"، كان الرصاص يدوّي، ويغنّي في الفضاء. لم ينجح هذا العمل، لأن قذائف "آر. ب. ج" اخترقت مقدمة السيارة، فاشتعلت النيران. هرب مَنْ استطاع، ونقل السائق - إثر إصابته في ذراعه -إلى أقرب مشفى. وضعف الأمل- ولارجاء بشفائه، لأن شظية اخترقت رئته اليمنى‏

حلّت المصيبة، بل مصائب جديدة تزحف نحونا. تبدلت ملامح الوجوه وبدا الغضب عليها. بعضهم أصرّ على الذهاب. ولو تحت النيران، وآخرون لا يتحملون الانتظار أكثر. . لماذا إذاً المخاطرة ؟‏

كنت، أنا وحيّان لا نرغب في المخاطرة! حمل واحد محفظته. عدنا إلى غرفتنا سالمين، آمنين. لحظات، سمعت جهاز اللاسلكي يتكتك ويئنّ.. آلو. . مين. . حوّل!‏

فتحت خريطة بيروت. تابع " قا.ك" توجيهاته، وإرشاداته إلى قائد القوات الخاصة ( خمسون متراً نحو اليمين. . إلى الأمام. . نحو الغرب ) وجهت السرية المنتشرة قرب الشاطئ نيران أسلحتها بكثافة، وبدأت القذائف تحصد عشرات المسلحين الذين باغتونا بالهجوم، وهم يختبئون في البراميل، كلما أصابت قذيفة برميلاً أو اخترقته، يتدحرج، ثم يتوقف، أخفق الهجوم الُمباغت لنا، وكانت ليلة حافلة حمراء، أو سوداء مكحّلة. تابعنا الرصد، وجميع التحركات، وإرسال التعليمات حتى الصباح.‏

بَدت الشمس حزينة تغرف الماء من البحر، وتلقيه فوق النيران، فاختلط دخان الحرائق بالأشعة الذهبية، وكان الليل يبسط أجنحته، كالخفافيش.‏

استمر حيّان يتلصص على بيوت الناس في هذا الجو الملّبد، لو كان عنده الإحساس لغسل وجهه بهذه الأدخنة، وجلس في ركن من الغرفة يفكر وحيداً.. يترك الناس، ينسون الموت والمفاجآت..‏

- تأمل! اكتب مذكراتك. استمع إلى نشرات الأخبار!‏

كان حيّان يستمع إلى إرشاداتي، وانتقاداتي اللاذعة، وهو يغطس في نوم عميق، يحتضن المنظار، وينتظر قدوم الليل، لعلَّ القمر ينثر حُبّه من جديد بعد غياب طويل.‏

تحدثتُ مع نفسي. الصوت اليتيم في داخلي يزيح عن قلبي ضباباً. يغسل متاعبي، ويرنّ في أذنيَّ.‏

الغروب الأصمّ. الشوارع الهادئة. لا سيارات أو مارة، عدا ناقلات جنود تتحرك، كأنها تنطح الأفق. تودع الشمس. الأحلام تصافحني، فهي قريبة من ذاكرتي وقلبي، لكني لم أشبع منها، فهاهي تتوارد وتتكاثف متزاحمة لترديد النشيد الوطني، أو أغنية لفلاح لم يترك أرضه.‏

كان الليل يرسم في أفكاري أحلام المستقبل!‏

- لاتناطح الجبال يا محمود! لا تقترب من البحر، إذا كان في حالة هيجان. أكتب إلى الناس. اطبع على جبين كل طفل خاتماً مغموساً بالحب. عُدْ إلى طفولتك، وأنت تطارد العصافير، وتقفز فوق الأحجار في البيادر. اقرأ مرة أخرى "غربال" نعيمة اسرح في خيالك، ولاتبتعد كثيراً، لأن في البعد جفاءً للذاكرة، ووجعاً للقلب. قاتل الذين قسموا بلادهم، وقسموا أنفسهم !"‏

لماذا يمتد الزمن، ويستغرق هذه العقود والقرون؟ لماذا لا يضمر ويتقلص؟ تطول الخدمة العسكرية " الإلزامية " وتطول. اليوم في بيروت يساوي شهراً! وتقابل السنة عقداً! تمنيات عتيقة على مشارف الروح. أيام صعبة تحبل بالبعد، وتولد موتاً صفيقاً..‏

لو كانت مياه البحر أكثر حلاوة، لغسلت ُ جسدي فيها، وأخرجت ُ قلبي من قُنه الحجري، وتركته يعوم فوق الماء، ويتعلمُ السباحة، ويقاوم الموج! كلّ شيء أصبح مالحاً.. ملوحة. الأرض مالحة. السماء تمطر ملحاً، وباروداً. دبقتْ أجساد الناس من الرطوبة الزائدة. الموت مالح، والجرح يحترق من أملاح الجسد.. هذا الجرح المفتوح، ينزف دماً وصديداً!‏

تنكوي النفس المظلومة، وحين تتألق الروح ينفتح الجرح، ويضحك. . يضحك وسط الجثث المطمورة. يصبح البكاء حسنةً على الميت.. هذا البكاء يحمل البلادة والتكرار، فقط يغسل العيون، ينزع منها الأوهام المخزونة. وإذا انفتح مجرى الدمع يزداد البكاء، ويتحول إلى ضحك. نحن نضحك من أنفسنا. نضحك من ذواتنا المهدورة. . نضحك ونضحك، ولكن إلى أي وقت نظلّ هكذا؟ ومتى تتجّمد الابتسامات المقهورة فوق أفواهنا !.‏

-6-‏

في المرة الأولى حينما صعدت في طريق مرتفع، وملتوٍ، ضيقّ، يصل جسر نهر بيروت بكرم الزيتون. لم أعرف خالي أو يعرفني من قبل. كانت أُمّي تصفه لي، وتحكي قصصاً عن طفولته، فترسخت صورته ولون عينيه وطول قامته وشكل وجهه في ذاكرتي. أصبحتُ أملك المعلومات الكافية عن عدد أولاده وأعمارهم، وأولادهم، وزوجاتهم، وأعمالهم... . وحين ودعتني قبيل الرحيل إلى بيروت أوصتني :" اتصل بأخي أبي سمير. تعرّف يا أميّ إلى أولاد خالك. ولدوا في فلسطين وبيروت. وفي عام 1956، انتقل خالك إلى بيروت، وترك حيفا، حيث كان يعمل إطفائياً مع خالك سالم الذي هاجر إلى أمريكا".‏

أحضرتْ والدتي عُلبة من الحلويات المتنوعة هدية إلى أخيها، وهي تعرف أن اللبنانين يحبوّن الحلويات الشامية، وكنّا نراهم في أسواق دمشق، يقومون برحلات يومية، ويتبضّعون. وكان فرق العُملة في تلك الأيام، يتيح للزائر شراء أشياء كثيرة. أما بعد الحرب الأهلية الثانية، فأصبحت الليرة اللبنانية لاقيمة لها، وانقطعت زيارتهم ورحلاتهم إلاّ ماندر. . هاجروا. . وحوصروا..‏

أول مرة أصعد الطريق المرتفعة. . أخذ العرق يغسل جسدي. أثقل حملي عُلبة الحلويات، واللباس العسكري، الشتوي.. أثناء هذا المشوار الطويل لم يعترضني أي مسلّح.‏

كان لقاء حميماً. دموع وقبلات، وأسئلة. استغرب خالي وقال:" ارتدِ اللباس المدني ياابن أختي. . المسلّحون كالذباب الأزرق. بذلتك العسكرية إشارة واضحة. . وقتلك لا يساوي في هذه المرحلة ليرة لبنانية. . انتبه أكثر إلى حالك" "!!‏

أفكاري تزاحمت آنذاك. تقاذفتني أمواج هادئة من الخوف. ومنذ ذلك الوقت أصبح ابن خالي الصغير.رفيقي وفي كل يوم من أيام الآحاد أرافقه، في سيارته الخمرية. أمضي يوماً هادئاً، هناك في الجبال وغابات الأرز والصنوبر.‏

جميلة الجبال، والأجمل الطبيعة التي تسرق الألباب، وتفتح أمام الروح فضاء رحباً.. الطرقات معبدة، تصل بسهولة القرى والمدن وأماكن المتنزّهات. .أشجار السرو الباسقة تعانق رؤوسها المخروطية السماء الأولى، ويسرق الهواء البارد، الجاف حرارة الجسد. يوم حافل أشعر فيه بالسعادة تلامس شغاف القلب، وتعانق أجمل الذكريات. . راحة واستجمام ينسى المرء الأوامر، ويتخلص من ثرثرة الجنود، ومشاكلهم، وقضاياهم المكررة. راحة في الصعود والنزول على المدرجات الجبلية. .. أتخلص من تسجيل البريد القادم من الكتائب الأخرى. .‏

لابدَّ لي من تغيير الأجواء وتجديدها، وذلك لتجديد نبضات قلبي، وجعلها تتراقص، وتغني وحدها المواويل، فتتجدد الذاكرة، وتنشط، وتتحرك. تتحول إلى خزانة للحكايات التي أتلوها على مسامع حيّان‏

كان حيّان يدقق في ساعة يده المهشمة. يقف أمام البناء. يمدّ بصره نحو كرم الزيتون. يتفقد الأزقة و أوتوستراد نهر بيروت. يهمس، غير مطمئن على تأخري. و"قا.ك" يسأل، ويكرر الأسئلة عن وصولي. حتى إن حيّان كان يعجز عن الرد عليه، إلاَّ أنه قال له :" عندما يعود سأرسله إليك فوراً"‏

اليوم كان يوم الأحد. الحياة عادية، تسير سيراً طبيعياً. لم يعكرّ صفوها أي شيْ. لقد تأخرت، وبعد هبوط الليل بساعتين، أوصلني ابن خالي إلى مقرّ الكتيبة. "شفّط" بسيارته. كان "قا.ك" يفتح النافذة. ينتظرني.. أشار بيده إليَّ تابعت صعودي إلى الطابق الثاني. سرعان ما تبدلت ملامح وجهه. . أرى بين الحاجبين لغة جديدة، وسأسمع لهجة قاسية في هذا المساء، هكذا كنت أردد... وسيعكر صفاء نفسي!..‏

قال بغضب : -اجلس ريثما انتهي من عملي..‏

- بقيت واقفاً، وقفة عسكرية. يداي سابلتان بجانبي، ورأسي مرفوع‏

أشعل سيجارة. أحضر له الحاجب فنجان قهوة. .رائحة هيلها ملأت أنفي.أغلق الباب؟. وقف كأن حرباً جديدة ستبدأ بيننا.. لكنه استدرك قائلاً:‏

" عندما تقدمت بطلب إجازة، لتقديم المسابقة لم أبخل عليك، لكن ما معنى أن تغادر طوال النهار، ولم تَعُد إلاَّ في ساعة متأخرة من الليل".‏

حاولت ُ مقاطعته. .. أشار بالسكوت، وإلاَّ!!.‏

بدأ الدم يتدفق بسرعة. استنفرت أحاسيسي. كلام استفزازي.. " عُدَّ إلى العشرة يا محمود"، لأن كل غلطة ستؤدي إلى دخول السجن، وربما إلى سرّية التأديب. . ثبتُّ أعصابي ؟، وبلعت كلاماً كثيراً. . أقلعتُ عن تفكير جهنّمي.‏

وحينما سمح لي بالكلام واستمع إليَّ، كانت أعصابه تعود إلى هدوئها، وعاد لون وجهه الطبيعي كما كان...‏

أجواء بيروت هادئة، لا تعكرّها سوى النقاشات الحامية والمقالات على صفحات الجرائد والمجلات. تُقدَّم المبادرات والحلول المختلفة. عادت الحياة اليومية إلى طبيعتها.. كل هذا مؤقت، فالمعارك الطاحنة قادمة!..‏

كل شيء يتحرك عدا الشمس التي تراقب الموقف بحذر. بدا القمر في تلك الأيام أكثر حزناً مما كان. وجه مُضاء، ووجه معتم. وجه للسلم، ووجه للدماء والدمار. وجه يضيء الشوارع، ووجه أسود يضمّ الضحايا، وبقايا أبنية، ومعامل مهجورة، وسيارات معطوبة اناس مقهورون، وفوارغ موزعة فوق الأرصفة، بعضها قابع في الحفر..‏

سمرٌ وضحك، و أصوات. . دوائر وحلقات، جنود يلعبون " الورق" يمدّون أشرطة أحاديثهم الطويلة في سهراتهم. يتحدثون عن الأفلام السينمائية. هذا يتفاخر بأنه يشرب البيرة، وذلك يتمدّد فاتحاً صدره للهواء، يعدّد أسماء لم أسمع بها لأنواع الويسكي" وايت بلاك - وايت هورس " سجائر فاخرة، وإتقان الجلوس في مقاهٍ، ومطاعم رفيعة المستوى. . إجادة لترديد كلمات ناعمة بالفرنسية. ..‏

أحلام تحققت، وأحلام تضيء دروبها. . أحلام تتفجر، وأخرى تتكئ على بعضها، كان الفرق واضحاً بين قادم من المدينة وقادم من الريف.. الأول سرعان ما تلاءم مع الحياة وأتقن ممارسة مظاهرها المبهرجة.. أما الثاني فمن الصعب أن يتلاءم بهذه السرعة. ولكنه يحاول التقليد، والمشاركة أحياناً بخجل.‏

بيروت، المدينة المفتوحة على البحر والعالم صقلت من يحتاج إلى الصقل.‏

كانت عنيده. . لم ترضخ بسهولة، فالمدافع والصواريخ، والقذائف المعادية عجزت عن فرض الطاعة، وتركيعها..‏

وحينما كنت أقول لحيّان:" أنت من الريف وأقل تطوراً من أبناء المدن كان يشمئز، معتقداً أنني أُعيّره أو ألُبسه عاراً أبدياً ".. يجيبني " أنا ابن حلب الشهباء، لكن والدي باع المنزل، عندما ارتفعت الأسعار، واشترى خمس قصبات من الأرض في منطقة الصاخور بنى فيها أربع غرف، وثلاثاً في الطابق الثاني. أصبح البيت واسعاً وكبيراً، يتسع لنا.. كل أخ له غرفة، وإذا تزوج يدبر رأسه، ويخرج من البيت. يفتح بيتاً جديداً" قلت له بعد استقرار الهدوء واستمراره: جاء دورنا. . جّهز نفسك للسفر. . الآن. . لاحاجة إلى التغطية النارية الكثيفة حتى تقطع السيارة منطقة الخطر. سنكون في سعادة طوال الطريق..‏

لوّح حيّان بيده، عندما انطلقت السيارة باتجاه "سن الفيل".‏

- هل تعتقد أن لحظة الوداع، أجمل من لحظة اللقاء؟.‏

- لا يامحمود! سنعود بعد يومين. . الأرض الحامية تنتظر عودتنا. . إنها بحاجة إلينا الآن أكثر من السابق. سأعود إلى المنظار أتلصص على بيوت الناس، وهذه مهنة جديدة. أن تعرف ما يدور في داخل غرف النوم! ستُفتح النوافذ، وتُشعل الأنوار الملونة. الصيف حار، والرطوبة عالية. . وستمتد الهدنة، حسبما أعتقد. إن نواباً وأحزاباً. ومسؤولين، وقادة ميليشيات يتباحثون حول إنهاء القتال، وعودة الأمن إلى ربوع لبنان.‏

تحركت قافلة المبيت في تمام الساعة التاسعة صباحاً. قطعت السيارة جسر الموت. صعدت الطريق المرتفعة تلهث، ثم هبطت. . ارتفعت قلوبنا معها، وهبطت مع هبوطها. انفرجت اساريرنا. . كانت آخر محطة لها، فنزل الجنود يصفقون. كل منهم يحمل محفظته. يترنّم فرحاً...هنا في "سن الفيل" مكان التجمع، والانطلاق من جديد إلى سورية. حيث تجتمع العناصر من جميع المناطق التابعة للواء. تسير السيارات برتل واحد.‏

الجميع يتحفزون. ويرغبون ركوب الباص الجديد. كان حظي مع حيّان معقداً واحداً في باص قديم مهترئ. . صوت محركة كمروحية حربية عاصرت الحرب العالمية الثانية.همستُ بودّ ومحبة - قبل أن تتحرك السيارات -بأذن المساعد أبي فارس، أن يبقى معنا في هذا الباص، لكنه أصرّ متفائلاً بأنه يريد الوصول إلى دمشق لإنجاز عمل ما.‏

ألححتُ عليه -فرفض، وحدث ما حدث بعد ذلك!!.‏

قطع الباص منطقة "الفياضية". تجاوز الباص الجديد، يخطف الطريق، ويكاد يبتلعه، ونحن نتمسك بالمقاعد نحاول دفع الباص نحو الأمام. نريد أن نتجاوز محور الخطر.‏

"رحمة الله عليك يا أبا فارس" لم تسمع نصيحتي، هكذا قلت لصديقي حينما وصلنا إلى منطقة "بحمدون".‏

كان الباص واقفاً على يمين الطريق. الزجاج متناثر. الهيكل محطّم بقايا دماء فوق الأسفلت.. حديد محروق. بقايا ذيول لنيران مازالت تشرئب، وتتصاعد من سيارة صغيرة كانت تلتصق بجدار الفرن.. الزمن بين الباصين لا يتجاوز نصف ساعة، والمسافة نحو أربعين كيلو متراً تقريباً.‏

أحاديث، وتساؤلات عما جرى، منهم مَن قال: "إن كميناً من مسلّحي حزب الكتائب فجرّ الباص. آخرون أكّدوا. " أن التفجير تمَّ باللاسلكي عن بُعد.".. موتى وجرحى وضحايا! صور تمرّ أمامنا تحمل أنيناً ووجعاً ودماء. . تمرّ بطيئة. تلتقطها أشعة الذاكرة، ومغناطيس القلب. فرّت الفرحة، وطارت أهزوجة اللقاء المنتظر. حلّت مكانها صور الجثث.. يومان يتيمان سأقضيهما. يومان سيمران سريعاً.. إذا لم تنتهِ الحرب يا حيّان. . هذه هدنه مؤقتة لاستعادة القوة من جديد. وإذا لم تنفجر الحرب في بيروت الشرقية، فستنفجر في مناطق أخرى. وستسيل الدماء في كل بقعة، ويتلوث جمال الطبيعة والكون، ويتعكرّ صفو الإنسان وحياته، ويتلوث الأمن والاستقرار..‏

لا أمان! بيروت لم تَعُد بيروت الأولى التي عرفناها. المغول يحرقونها. ينهشون أحشاءها. الصليبيون يهدّمون كنائسها. لم يأتوا من البحر، وإنما جاؤوا من قلب بيروت، يرفعون إشارات الموت، ومعاول التهديم.‏

افترقنا في دوّار "ساحة الأمويين ". ودعتُ حيّان " إلى اللقاء بعد يومين في هذه الساحة " !. سيحمل حيّان إليَّ بعد يومين الأخبار الطيبة عن أهله وزوجه. سيحدثني عن أشهى وأطيب أكلة، وبدوري سأصف له لقائي مع الأهل، والعائلة. . سنمضي في طريق العودة، نلوك الأحاديث والقصص، ونخبئ بعضها إلى وقت آخر، وثم نعود ونكرر البدايات من جديد.‏

صور نصرُّها، ونحتفظ بها في الذاكرة، وسنفكّ عقدها عند العودة. " الزجاج المحطّم. . هياكل السيارات. الجثث التي أصبحت رماداً في جوف السيارات. . الجثث الأخرى المتفسخة في الأبنية المهجورة، تنشر رائحتها. . تتقاذف عظامها الكلاب الشاردة".‏

" رحمة الله عليك أيها المقاتل الشجاع. لم تصل إلى " دائرة النفوس" لتتابع أوراقك. أصبح ابنك البكر ربّ العائلة، ومُعيلها. هو الذي أسقط اسمك من السجلات، وجهز معاملة الوفاة، وسيبدأ بعد ذلك بتحضير معاملة راتبك. جسدك الآن ينغمس في تربة الوطن. " من التراب وإلى التراب"‏

لم يُصَبْ في الحروب كلها بأذى، سوى شظية صغيرة لامست بطنه، عندما كنّا في المرفأ، وأثناء لقاء السرايا. وتجمعها للانتقال إلى برج حمود. كان الجرح بسيطاً. . ولكن لم تكن حادثة الباص خاتمة الأحزان. . الموت في كل يوم. . الصباح يغني للموت. . المساء يدفن الموت. ويلبس الليل ثوب الحداد، حزيناً، فلا ضوء يزينه، ولا قمر! اكفهرّ وجهه. تقاطرت دموعه إلاَّ نجمة الصبح الحالمة بالحياة التي تضحك للصباح. تبعث الأمل. يستنجد بها الأحياء. ويظلّ الأمل بالحياة أقوى من الموت. . مات أبو فارس، ومَنْ منّا لن يموت!!.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:25

-8-

يولد الإنسان، ويهرم، ثم يتفسّخ. الحيوانات تشيخ ثم تنفق. إننا مخلوقات نافقة، سائبة. عندما يحتاج الفلاح حيواناً في سني الغلال، يفتش، ويبحث عنه، يجدله مربطاً، وراء مذود. . لاأحد يفتش عنّا. تزول الأشياء، وتتجدد الحياة كل ساعة، وتُغتصب كل دقيقة كرامة الإنسان. تبقي الأحلام دون قيد. لا يستطيع حاكم أن يقيدها، أو إمبراطور أن يشدّ رسنها. أنا حرّ في أحلامي، وكذلك حيّان، وأبو بسام "الرنكوسي" وأبو فارس، وأسعد، ومحمد، ورؤوف. . و...‏

لا تستطيع أية قوة أن تقتحم أحلام الناس، حتى، ولو استخدمت أحدث الأسلحة. حين يتقيد الجسد، أو يُربط بسلاسل، تبقي الأحلام تسرح. تخشع لها أعظم الشخصيات، وترعى في مراعيها أجمل النساء!‏

لا يستطيع أحد أن يلجم أحلامي، ويقطع حلقاتها الجميلة. لايمنعني أحد من التفكير بسيقان المرأة التي تعوّدت الذهاب إلى الشاطئ كل يوم في فصل الصيف. أظلّ أحلم ببقعة الرمل التي طوّقت جسدها، والرمال التي قبلت شعرها الأسود وجسدها المحروق بالشمس، وحلمتي ثدييها اللتين تغنيان للسماء.‏

أحلامي تتطاير كالهواء الذي يعبث بشعرها، ويداعب أهدابها. يرسم جمالاً خلاقاً على خصرها. . لا أحد يستطيع أو يملك الحق بسجن أحلام حيّان، واعتقالها. حيّان يحمل منظاره. ينقل أحلامه إلى عينيه. تضمر، يغمرها الحزن، حينما يرى في سكون الليل، رجلاً يداعب زوجه، أو عشيقاً يغازل حبيبته. يعصر حلمتيها. يشهق مرتعشاً. وعندما يخلع المنظار عن عينيه، يعود إلى أحلامه، فيضاجع السكون السابح في فراغ الروح، الملوث برائحة البارود والظلام، قبل أن يشق ضوء القمر طيّات الغيوم. وفي غيبوبة الأحلام، ترتقي نفسي. أسبلت جفنيَّ.حاولت طمس نتوءات أحلامي، وتكسير الأخشاب العائمة على سطح الماء.‏

عاد حيّان من مناوبته متجهّم الوجه، ويمكن وصفه، كحلم يرضع من ثدي أُمه حتى ينتفخ بطنه، ويعلو كقبةّ غير متناسقة.‏

بدأت أجرجر ذيل ذاكرتي نحو الخلف. أنتف ريشه. ولم يقو الجناحان على الحركة، فهمدَ جثماني. انزويت في ركن من أركان الغرفة، أحلامي تنزف جريحة، شهيدة. الشهيد ينزف، والقتيل ينزف، تظلّ أحلامه ترافقه حتى القبر. لا أحد يقدر أن يقطع نزيف أحلام الفقراء. المجهولون، العباقرة الذين يقولون الحقيقة تنزف أحلامهم وتتكسر أحلام الرابضين وراء المكاسب، الحالمين بالمناصب العليا في أول صدمة يتلقونها. أما أحلامنا فمن الصعب أن تموت من أول خدش، أو ضربة.‏

أعتقد، وفي هذا الوقت بالذات، أن الرنكوسي صاحب الخصى الثلاث يحلم على شاطئ "صيدا". وعندما زارني أثناء فترة إجازتي القصيرة، كان يحلم بأن يجلس إلى جانبي، ويحدثني مطولاً. فمنذ شهور لم أرَ وجهه!‏

جميلة صيدا. يزّين شواطئها الصيّادون، ومراكبهم ياصديقي محمود.. وهل تعلم أنني تعلّمت إلقاء الصنّارة في مياه البحر لصيد السمك. . حلمتُ كثيراً أن اصطاد سمكة كبيرة، أحملها معي، هدية لزوجتي. لكن حلمي اختنق، أصبح جيفه نتنة، ولم يتحقق أو يتكوّن كجنين، عندما يتحقق ماذا يحصل؟..‏

البحر يحتضن كل الصيادين على شواطئه، يعوّض لي فقد الأحلام. ومَنْ يلاحظ أن الصيادين لا يضحكون أو يبتسمون إذا كانت شباكهم فارغة. وتُسمع أغنياتهم من بعيد، تنتقل عبر الأمواج، حينئذ ٍ أعرف أنهم حققوا أحلامهم. أحلام تتوقف عن السير، وتتجمد، أمام ويلات الدمار والموت بالجملة.‏

كانت "لطيفة" زوجة "الرنكوسي"، واجمة، تهذي، تحلم بمولود يقيها شرّ الأيام. تحسب ألف حساب لعودة زوجها. تفكر بطلاقها. وحين سألتُهُ : ما هي أخبار الخصية الثالثة؟ ضحك الرنكوسي، وقاطعني.. ألقيتها في البحر..‏

كيف؟ بعملية جراحية بسيطة. بعد يومين تنتهي نقاهتي. هل طمأنك الطبيب ؟‏

- احتمال الإنجاب أصبح وارداً جداً، لكن سأستمر بالعلاج عاماً آخر.‏

- أعلم أنك لم تترك طبيباً إلاَّ وطرقت بابه، حتى المشايخ الذين بالوا على جسدك، وضحكوا على ذقنك. دفعت لهم المال، ومازلت تعلّق الحجاب في رقبتك، وتضعه تحت مخدّتك.‏

- أتمسّك بكل خيال يمرّ أمامي يوميء إليَّ من بعيد بالشفاء من مرض الصَدَف، والعقم. لافرق عندي ‍ المهم أن تكون لطيفة راضية. . لا أريد أن أُطلقها. . أفكارها تجوب دائرة الخوف، وهواجسها تحرك أفكارها. . الإنجاب والأمومة حق طبيعي.‏

الزوجة ترغب بكل إرادتها أن تكون أمّاً، تلد، وترضع، وتهز السرير لطفلها تناغي له، ويبتسم لها. تحمله بين ذراعيها.‏

لطيفة صامته، لاتنبس ببنت شفة. عيناها تتحدثان بأمور أخرى، ربما تكون فَرِحةً، تخبئ المفاجأة السارة عن زوجها. وتعتقد أن الوقت لم يأتِ بعد لإخباره.‏

هكذا قالت عيناها، وتقول، وهي تحدّق إلى زوجها، ثم تدير رأسها باتجاهي، كأنها تخاطبنا : " سأنجب طفلاً، أو طفلة جهزّ نفسك يا زوجي العزيز لأنك ستصبح أباً".‏

ابق أيها "الرنكوسي " في صيدا. . هناك قرب الشاطئ. تعلّم السباحة، وشارك الصيادين آلامهم، وأفراحهم. لأن فرحاً قادماً ينتظركّ! كيف صيدا القديمة؟ أجب ولا تبخل. - مازالت تُنجب مقاتلين وصيادين يدافعون عن شواطئها وشوارعها وعن أهلها.‏

تزهو حقول التبغ. خضراء على امتداد البصر، تلوّن مع أشجار البرتقال السماء الأولى.‏

الصيادون، عمال التبغ يعملون في البحر والأرض، وحينما يلتقي الخط الواصل بين الشواطئ والسهول، تتهاطل دموع " الأوّلي" تغوص في الرمال. ونهر "الليطاني" دواء للعقم. . أما نهر بيروت الذي يقطع القسم الشرقي من العاصمة فقد جفَّ، وتلوث، بأنفاس الأحياء وقذاراتهم، وجثث القتلى. . مَنْ يغتسل بمياه "الليطاني" تزداد حيويته يورق، ويُزهر.‏

تخلّصت لطيفة من صمتها. مزقت غشاوة الخوف. أخرجت من محفظتها الصغيرة السوداء.أعشاباً برّية، ووضعها على راحة يدها. رددت بشجاعة، وصراحة : لولا هذه الأعشاب. . لولا البخور الذي اتنشقه. . لولا الشيخ "عبد الله" الوقور، ونصائحه. لولا الحجاب الذي يعلقه زوجي، لن تطمئن نفسي. أنت تسميها خرافات، وامتصاص دماء الفقراء، وضحك على ذقون الأزواج. نساء كثيرات أنجبنَ بعد سنوات من عقمهنَّ، وأزواج كُثر، مثل الرنكوسي تخلصوا من عقمهم.‏

الأعشاب البرية دواء، والبخور والحجاب يهدئان النفس. وعندما ترتاح نفسي، وتهدأ أمواج الكراهية، أشعر أن السماء تفتح أبوابها، وملاكاً طائراً، قادماً إليَّ، فاتحاً ذراعيه. يقف أمام بوابة واسعة، يستقبل الناس الفقراء، والملذوعين من شمس الصيف، وذوي الأجساد المقشرة من برد الشتاء.‏

تنهدَّ الرنكوسي ضحك ملء فيه:‏

- أخاف أن ينطمس هذا الشعور، وتلوكه أطماع النّهابين، وسارقو قوتنا، السماسرة الذين يتاجرون بالحديد، والمواد المهّربة، وبالإنسان أيضاً.‏

لا قيمة للإنسان. أصبح سلعة رخيصة، فارغاً، يذوب في همومه اليومية، ومتاعبه. يركض وراء اللقمة. ينهك جسده، وعيناه تستظل في أورقة السماسرة التي خيّمت كعرائش العنب. يبكي في داخله ويضحك "كالمضحك المبكي"، يخبئ حقده، ولكن ماذا ينفع أن يقف الإنسان الفقير على الرصيف، ويتفرج على واجهات المحلات الأنيقة، والمزخرفة؟ أن يترك أرضه، ويزاحم سكان المدن. أن يهاجر. أن يتطوّع في المقاومة الفلسطينية ‍ أن يموت. أن تظل ذاته مسكونة بالأوجاع، منذ بدء الخليقة‍.‏

اضطررت أن أجيبك، فلا حاجة لنا بهذه الشروح والأقوال. نعرف همومنا، ولا يوجد عندنا أشياء نخفيها عن بعضنا بعضاً. فخطيئة آدم تلاحقنا حتى القبر. لو لم يأكل التفاحة. ولو سمع كلمة الله و لم يأكل لما حصل ما حصل‌ " أصبح عارياً يفتش عن ورق الشجر ليغطي عورته. بدأ يخيط ثوباً ورقياً أخضر اللون سرعان ما تحرقه الشمس بحرارتها، فيتناثر كالفتات على موائد الأغنياء. خطيئة والدي التي ورثتها، أنه كان يأكل من عرقه وتعبه. الناس الذين يأكلون من عرق جبينهم، هم الجياع في هذه الدنيا.. ومع مرور السنين يزداد تعبهم، ويزداد جوعهم. .سيبقون عراة إلى الأبد!‏

الصيادون جياع في موسم الحرب، وعمال التبغ تحترق مزروعاتهم أمام أبصارهم. تظل بطونهم مفتوحة. إذا لم يجع زعيم الصيادين مثل رفاقه يقتلونه، ويلقون جثته في البحر. أما سماسرة التبغ فهم الذين يقتلون العمال الزراعيين.‏

أسألك : مَنْ قتل "سعدا "؟ عندما طالب بحقوق العمال"‏

طال الحديث، وقصر الليل آخذاً بالامتداد فوق فضاء البيت. مرّت أسراب من الطيور كنّا نسمع ألحانها، وهي تعزف للغروب. . خفَّ ضجيج الأولاد. لم يبقَ إلاَّ أضواء الشوارع المثبتة على أعمدة، أو في الجدران. ينوس ضوؤها، كما ينوس فتيل العمر. ونظلُّ نحلم بالأيام المتبقية، وسيعود الرنكوسي إلى صيدا، وتعود والدته إلى خلق الأجواء المسمومة، مع لطيفة، وافتعال الخلافات. أما أنا فسأكون في ساعات الصباح الأولى في ساحة الأمويين على موعد مع حيّان، كطائرين يعودان من الهجرة.‏

سنعود. . وهناك في "برج حمود" ، سأظل أُحدّق من النافذة في جسر الموت"‏

-9-‏

مسكينة " عائشة" ابنة السبعة عشر ربيعاً، قطعت كل الحواجز كطائر جريح يلاحقه صياد ماهر.‏

في لحظات الاستراحة. ضوء الشموع. عتمة السلّم الذي يدور على طوابق شركة التبريد.. الدرجات المحفورة. البرغش، كزوابع الخماسين. الأقراص الخضر تصدر رائحة. يملأ دخانها أجواء الغرفة المفتوحة طوال اليوم. . لا أبواب، ولا نوافذ. مَنْ يدخلها لا يطرق بابها، يضرب كفيّه على الجدران الأسمنتية السميكة.‏

كنّا نحلّق حول الأقراص الخضر. يتطاير البرغش. يخرج ويعود. كان ذلك قبل أن ننتقل إلى البناء المقابل لشركة التبريد. أوّل مارحلنا، عندما استقبلنا رجالٌ ونساء من الأرمن، وقدموا لنا الخبز والملح.‏

عائشة تلهث. كان دخولها مفاجأة للجميع. شعرها معلوك بالعرق. عيناها مُتعبتان ثيابها وسخة. شعر ساقيها طويل. تمرّ بينه دروب تضيق، وتتسع. دروب من المطاردة والهروب، كيف وصلتِ إلى المنطقة النارية الحمراء؟‏

كانت تبكي. تتلمس فخذيها. وترفع منديلها عن رأسها. . إنها تحترق. يلاحقها الموت، يطاردها، كما يلاحقنا ويطاردنا!‏

لم تجد ماء في نهر بيروت لتستحم. حملت حذاءها بيد. رفعت تنورتها الطويلة باليد الأخرى. تقفز وتنطّ وتتطلع خلفها.‏

تدخّل أبو شاهين مراسل الكتيبة. . هو الذي قادها، أومأ لها، بأن تلتجئ إلى شركة التبريد. أجرى اتصالات سريعة مع "قا.ك"، بدأ يبحث عن وسيلة، لإيصالها إلى أهلها.‏

تحدثت عائشة، كنّا نستمع إليها بشغف. تغصّ حلوقنا بلعابنا . استمعنا إلى قصتها بانتباه شديد، متحفزين نترقب النهاية. " لقد باعني والدي، وأنا طفلة صغيرة، لا يتجاوز عمري ست سنوات إلى عائلة من "أكابر" بيروت، وهي بالأصل عائلة شامية. وكل عام يأتي والدي مرة لزيارتي. يأخذ من " المعلم" مبلغاً من المال، ويعود إلى قريتنا الجميلة، الهادئة في سفح جبل. تشرف على وادٍ سحيق"‏

استمرت بالبكاء. تشهق. قلبها يعلو ويهبط. أما أبو شاهين "المراسل"، سائق الدراجة النارية، فكان يصهل كالحصان. وحين تشتد الشدائد يطير بها، وتطير به. ومن الصعب أن يلاحقه القناصة، أو تصطاده قذيفة هاون. الهمّ إلاّ َرصاصة ثاقبة من رشاش "14.5مم"، إذا سدّد الرامي على قفاه قبل أن ينحرف يميناً أو يساراً. طلقة واحدة آنئذٍ تكفي!‏

غسلت وجهها. مسحت فخذيها. ظهر شعر ساقيها المائل إلى الشقرة. بقيت بقع بيض، وبقع أخرى من زيت أو مربى، لا أدري، فوق تنورتها. البرغش يأكل وجوهنا. وجهها الأبيض المدّور أصبح كرشم، حينما مَسَحْته بيدّي، كانت الحبيبات الناعمة تُقبّل راحتيّ، لكنها لم تزعل أو يبدُ عليها الانزعاج.‏

أمرر أصابعي فوق بشرة وجهها، وغيري فضَّ بكارتها وهي طفلة. كان حيّان يُشبّكُ أصابع يديه، وعنده الرغبة أن يقول لها:" أذهبي، واغتسلي يا عائشة. لن أحمل المنظار اليوم.. وجودك فجرّ أحلامي. أنت كمين مسلّح. أطلقي القنابل الحارقة على جسدي".‏

انفجرت أساريرها. . يذوب الخجل كالزبدة. . لماذا تخجل؟ لا أدري! علماً أنها تعوّدت على مضاجعة العشرات من الشبان. . والدها يضاجع أُمها، يمسح أوساخه بيديه، وعائشة تتقزز نفسها من كثرة ما قلّب جسدها، وقطع أحلام طفولتها، ابن المعلم.‏

بيروت عندما كانت طفلة تغتسل بمياه البحر، وتشرب من نهري بيروت والكلب، كان الشباب يحلمون بها.. صبيّة لها جديلتاها. . جديلتان مستلقيتان على كتفيها. وتضرب رأسها الأمواج. أما الرذاذ، فكان يقبّل وجنتيها. تفتح صدرها للجميع، لكن لا أحد يقوى أن يمدّ يديه إلى ثدييها الناضجين، أو يقتحم جسدها المخملي. عيون تقيس أبصارها، حجم إليتيها المتكورتين. تدغدغهما رمال الشواطئ. صبيّة شامخة، كالوردة. مرفوعة الرأس. ناضجة كإجاصة. طيبة المذاق. أما عائشة ياحيّان، فهي غير ذلك. إنها باكية حزينة. أُمٌّ. رضع من ثدييها سماسرة وتجار، وأبناء آغاوات، ورؤوساء عصابات، وحشاشون، ملوثون بالفساد، ومهووسون.‏

عائشة الأرض السائبة، هجرها صاحبها. بقيت الأشواك تداعب تربتها. وبيروت خلع ثوبها الأبيض تجار السلاح، والموت. مزقوا فخذيها. غطسوا رأسها في المياه المالحة. الآن عائشة هي بيروت، وبيروت هي عائشة. أية تسمية صحيحة نطلقها عليهما ليس البرغش الطيّار الذي أكل وجهها نحن ياحيّان نشتهيها. نحن والبرغش توأمان.‏

لو نغسل جسدها الملوث. لو نحرق البخور تحت إبطيها، وبين فخذيها. لو نسرّح شعرها الذي انطمس لونه. لو ننظفه من الأعواد واللعاب. لو ننثر غبار الطلع. لو نلقّحها في هذه الليلة، أو كما تقول أنت، أن تضاجعها وحدك. لماذا تحب وحدك؟ ألسنا نحن شركاؤك؟ لماذا تريد أن تختلي بها؟‏

كانت تسمع. تفتح أذنيها للأحاديث. تتمتم. تُناجي ذاتها. تهمس :" أينما ذهبتُ يتحلق حولي المغتصبون. تشرّدتُ. شردتني الحرب الأهلية. التجأت إلى شركة التبريد قطعتُ جسر الموت. علّي أتخلص من الموت. أحلام قذرة كانت تطاردني. .. لولا تهديدي بالسلاح لولا محاصرتي. لولا جوعي. لولا الموت. . الموت أفضل ‍ أنا مّيتة - حيّة. اعتقدتُ أنكم أرحم منهم. ستنظفون جسدي. وأكون مقاتلة إلى جانبكم، لكن أحلامكم أيقظت في روحي أشكالهم، وخيالاتهم، وأصابعهم، وهي تنغرس في جسدي. لم أعد أشعر باللذة. أصبحت كخرقة مبلولة بالماء. . الجميع يعصرني، وكل القذائف، وطلقات القناصة كانت تحيد عنّي. أضع وجهي في مواجهة المدافع، والراجمات، والقذائف تقفز فوق جسدي العاري".‏

بيروت تبكي على شبابها، وأهلها، وأنتِ المُغتَصبة. . لولا أنوثتك لم يقترب منك أحد من الرجال... لولا رائحتك، وطراوة لحملك وجسدك الشاب، وثدياك. . لولا عيناك وجدائلك، وجسدك الذي قمرّته الشمس.. لولا البركان المتفجر. . لولا قلبك، وغمازتاك الممهورتان بالشهوة، لم يحدث ما حدث"..‏

تشتهين، ولكن الاغتصاب بشع. اغتصاب بيروت غيرّ رائحة جسدها..جسدها نتنٌ وهي حيّة تتنشق الهواء. يتفسخ من الدعك. تشققت شفتاك. . أصبحتا تنزفان، مجروحتين، ولسانك تحرثه أسنان المغتصبين.‏

" ابن المعلم هو الذي فتح أول شارع في قلبي". هكذا قالت بعد صمت طويل. كانت تستمتع، وأنا أتحدث عنها، وعن بيروت. " كان يطاردني. يستغل وجودي وحيدة، حين يسافر والده إلى أوروبة. أركض من غرفة إلى غرفة. أختبئ وراء الستائر، وتحت الأسرة. يلهث خلفي. هكذا لم تُجدِ محاولاتي. أهلي بعيدون عنّي تركوني سائبة كبهيمة جرباء. إنني لست سلعة فقط. السلعة تجد مَنْ يشتريها أبيع جسدي دون مقابل. أبيعه لتلبية شهوة ابن معلمي.‏

لم تكفه العاهرات والراقصات، والمنجمات. أعجبه نضجي المبكر. هو أول مَنْ عصر بين أصابعه ثدييَّ الصغيرين، فبدأ ا يكبران، ويقسوان. رضخت للأمر الواقع. كانت الأحلام تساورني. . وأنا خادمة مؤجرة. أسأل نفسي مراراً_ يملك ابن المعلم أرزاقاً، وأموالاً لا تحصى - هل يعقل يا عائشة أن تكوني زوجة له في المستقبل؟ إنني حينما أراقب شراهته وشبقه الجنسي، والعنف الذي يستخدمه معي، أرى في وجهه ما يطمس أحلامي، ويقضمها.‏

ثم أتحوّل بعد الجهد والتعب والإرهاق إلى جثّة هامدة، لا روح فيها، ابن المعلم كالكلب، ما أن يمارس معي الجنس سبع مرات متتالية حتى يتحرك ذيله. . يمد لسانه. يلهث مثل كلب في صيف حار. يلتجئ إلى الظل، وأنا أغسل جسدي " أعود إلى شرفة المنزل وينام الحقير ابن الحقير، وكأنه لم يعمل شيئاً. غسلني بالعار.. ألقى بي في شوارع بيروت المحترقة. . أصبحت قطعة منها، وجزءاً من أجزائها. أكتوي بنيران أسلحتها. ألتجئ إلى بيوتها الخربة المهجورة. أنام فوق السطوح. أمدّ بصري فوق جسر الموت.‏

جسدي بقعة من هذا الجسر. بقعة تحترق. عيناي تذوبان. تُطبقان جفنيهما. أغفو، ومن شدة القصف في تلك الليلة، وبعد أن حملتني دورية من المسلّحين إلى أحد البيوت، ذات الجدران المعلقة بسقوفها، الملطخة بالدماء.مرروني بالقوة فوق شظايا حادة الرؤوس وقطع من الزجاج، ومسامير. أُدميت قدماي، وتناوبوا، واحداً وراء الآخر، فوق جسدي.‏

تنقلت بين الحواجز، مررت تحت الجسور. سرت بجانب الأبنية وتحت شرفاتها الممزقة، كجسدي. لم يطلب واحد هويتي، أو يسأل عن وجهة قدومي أو من أين أنا قادمة ؟‏

منظري الخارجي يشبه منظر بيروت. وفي داخلي. . قلبي المهجور، كقلوب الناس الذين يفتشون عن مأوى، بعد أن تهدّمت منازلهم، أو عن تنكة ماء، وشمعة، أو عن ربطة خبز.‏

عيناي شمعتان أشعلتهما بدمعتين قانيتين، تضيئان دربي. كيف انحرفت عن اتجاه سيري، ودخلت من هذه البوابة الواسعة، المفتوحة لا أعلم ؟‏

شعرت بالطمأنينة حين رأيت الجنود يتوزعون في الأبنية كقوس قزح يمتد خيالهم من البحر حتى برج حمود.‏

أطفأت الشمعتين. كانت أنواركم الخافته تعكس الضوء الذي أرشدني، إلى المكان، وقدماي تلتويان. تلتف الساقان وعندما صعدت السلّم عاد الخوف يركب جواده. كان يدفعني من قفاي، وأنا أقفز درجة أو درجتين أمسك بدفة قلبي. أجمع نبضاته الواهنة، والملوثة بالخيانة‍.‏

في الصباح شدَّ أبو شاهين، عائشة من يدها. قادها دون رسن، قدّمها إلى "قا.ك"، ولا أعلم بعد هذا التاريخ ماذا حلَّ بها‍. وحينما سألته عنها، تلعثم في كلامه، ولم يَقُلِ الجواب الصحيح. بدأت أعصر أحلامي. أشدّ على لسان الحاسة السادسة. أقرع بابها السرّي، وأيضاً لم يأتِ الجواب. لكني، وفي أحد الأيام رأيتها ترتدي بذلة مموهة "عسكرية"، وفوق رأسها طاقية يمتد لسانها نحو الأمام.‏

حاجباها منتوفان. شفتاها مصبوغتان بالحمرة.. في قدميها حذاء قماشي، وتربط فردتي بنطالها بالمطاط. يطوّق خصرها نطاق جلدي. كمّا سترتها مرفوعان حتى الكوعين،‏

ألححتُ على أبي شاهين ليقول الحقيقة. فاجأته بأنني أعرف كل شيْ:‏

- ليس سرّاً يا أبا شاهين. ألمّ ترَ البنات المسلّحات؟ ‍ ألم تسمع أصواتهنَّ عبر الأجهزة اللاسلكية تزغرد. . قُلّ الحقيقة وإلاَّ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!‏

غضب ردد كلمات بذيئة. لم يحترم شيخوخته. في هذا الوقت تماماً عادت عائشة من برج حمود، تحمل سلّة من الخضروات، وعدة ربطات من الخبز. وقفتْ.‏

تتأكد مما تسمع من حوارت ساخنة. " سمعتُ صوتكما. سمعته عن بُعد عشرين متراً.‏

لا تأخذ على خاطرك يا محمود. لن أنسى ضيافتك، وأنتَ يا أبا شاهين كالكلب الطاعن في السنّ. تشبه ابن معلمي. ركبتني مرتين في تلك الليلة، ولم أصدّق أنك أنت الذي تلهث فوقي، وتعوي. اعتقدتُ أن أحد الزعران، أو الكلب ابن المعلم، هو الذي يركبني!"‏

- أنتَ مُغتَصِب. حيّان الأعزب، الملهوف، ضاجعها في أحلامه، في بقعة مضيئة، مسوّرة بالفيء، وأوراق خُضر، أمام الجميع. أما أنتَ أيها " السافل" استغللت مناوبتك، فخلا لك الجو!.‏

تعودتْ عائشة على الصمت. الصراخ يعني قتلها، وانتهاء حياتها.طلقة واحدة، ثم تُلقى من النافذة إلى نهر بيروت، وتقول حينئذٍ، أنها انتحرت. مهمتنا أن نغسل بيروت من العار، وأن نخلصها من السماسرة، وتجار السلاح.‏

وعائشة المغتصبة، ألا يكفيها حزناً وألماً.. ضاقت بك الدنيا، ولاتبول إلاَّ فوق جسدها.‏

اغسلي ياعائشة الرجس. لوّث أبو شاهين جسدك بعد أن غسلتهِ، ونظفتِه من الدنس، والبقع القذرة، وخلصتهِ من أوساخ الماضي.‏

بصق حيّان في وجهه مرتين:في المرة الأولى، قال له: من العيب أن أبصق في وجهك. أنا كولد من أولادك.أناديك يا "عمّ" لكني بصقت مضطراً اضطراراً قسرياً. لقد شوهت سمعتنا، وعائشة أصبحت مثل ابنتك، عندما أعطيتها الأمان والاطمئنان.‏

وفي المرة الثانية، كبرّ حيّان البصقة. لاكها، وجمعها حتى كَبُرت. ملأت فمه، فقذفها بين حاجبيه.‏

أنت سمسار، تتاجر ببقايا جسد. تقامر على عينين ذاويتين، حرقتهما زمر الموت. أنت كالذباب الأزرق، ومن "فصيلة العقارب". لم تتخلص من قذارتك. قذر يا أبا شاهين. حملت أوساخ الآغاوات، ووضعتها في جسد بيروت. . في جسد عائشة.‏

أصبحت عائشة الآن، ومن هذا التاريخ جسداً يقاوم. وتعلّمتْ كيف تطُلق الرصاص على أعدائها!..‏

-10-‏

وجهان قادمان من جهتين. وجه حيّان يحمل غبار التعب والسفر الطويل، ووجهي يحمل حزن العودة إلى الشاطئ المجروح.‏

وجهان يلتقيان في نقطة تتقاطع فيها الشوارع. تنتصب في الوسط ساحة الأمويين، كتمثال صمد في وجه الرياح والأمطار.‏

مرّت الساعة الأولى. تجمع الجنود وصف الضباط فوق الرصيف. تحيطهم أشجار باسقة، ساكنة على استقامة واحدة. كل اثنين يتبادلان الحديث، وتصدر أحياناً ضحكات متقطعة. ذقون حليقة. وجوه تحمل تساؤلات حول ما يدور عن تأخر السيارة، وليس من عادة السائق التأخر!.‏

أجوبة متعددة: منهم مَنْ قال: السيارة في "التصليح" وأبو قاسم مريض. أو "راحت عليه نومة"...‏

كانت الشمس ترتفع. أصبحت قرصاً سجيناً خلف أشجار السرو. تركت خلفها أفقاً يرسم ملامح الوداع والفراق.‏

افتح يا حيّان "الترانزسيتر" أسمعنا صوته منذ يومين لم أسمع الأخبار. لقد طغى اللقاء مع أمي وزوجتي على جميع الأخبار ، وإن كانت بيروت تسكن بين أضلاعي، وفي قلبي. كأنني الآن، يا حيّان أقف وراء النافذة أحدّق إلى جسر الموت، وعائشة تحمل منظارك، تدوّر فتحات عينيه على كل المواقع. تمسح ببصرها شوارع بيروت، وأبنيتها الواجمة كالقبور. تتحسس بيدها جسدها. تمرر أصابعها فوق بقع الوجع المعلوك. تتذكر نتوءات أسنان المهووسين. تشتمُ. يمتليء فمها بالسُباب واللعنات. تبصق على شاربي أبي شاهين، وأنت تقامر ببقية الشهور من خدمتك الإلزامية.‏

كان حيّان يحمل الراديو الصغير. يحرك موجاته على محطات القيامة، فوق تلال النيران.‏

- اسمع. .. اسمع يا محمود : لا أريد أن أسمع أخبار المحطات الملوثة !‏

- ألا تعجبك إذاعة "مونتي كارلو"!‏

-لا تعجبني !لأنها تنقل أخبار الموت. صوت المذيع كألسنة اللهب وغنج المذيعة تتفتح له آذان المراهقين‏

غرق بالصمت. وقف باستعداد. بينما كان رأسي يدور مع السيارة المسرعة حول دوّار ساحة الأمويين. تراقب عيناي عصافير أفسدت وقوفها طائرة ركاب عابرة. أُحدّق إلى بردى حزيناً. أتفحّص مياهه الكسولة. أضع منديلاً على أنفي لأنني لم أتحمّل رائحة مياهه الآسنة.‏

-اسمع يامحمود!‏

- أصغيت بانتباه!‏

- أتسمع المذيع:" استمر القتال في مناطق عدة من بيروت حتى الصباح هجمات المسلّحين في منطقة " الدورة" على القوات السورية. " الفيّاضيّه" تغرق بالدماء...الطرقات مقطوعة. الراجمات تُمطر قذائف ساخنة. ملايين الطلقات والصواريخ والذخائر المتنوعة الدمار.. بيروت تحترق. مئات الجرحى. لم تستطع سيارات الإسعاف نقل المصابين، والجرحى إلى المستشفيات".‏

عندما أستمعنا إلى هذه الخبر، شقّ كل واحد طريقه في اتجاهات مختلفة، حاملا محفظته في شرود، وقلق. كان حيّان ضيفاً عزيزاً في تلك الليلة. وبعد أن انعطفنا باتجاه المنزل، جمع حيّان أسئلته التي لا بدّ من الجواب عليها، وختمها، قائلاً:‏

- الهدوء. . هذا السكون لا يعكّره سوى ازدحام السيارات ووقوفها أمام إشارات المرور، ووجوه الناس الهائمة، الموزعة في الجهات الأربع، ووجهانا يحملان الخوف والخيبة.‏

- أعتقد أننا سنتأخر يوماً، أو يومين، وربما أكثر!‏

- هل سنُعاقب من "قا.ك"؟‏

- عقوبة. .! لماذا؟ هل نحن مَنْ سبّب التأخّر؟ ألم ترَ عشرات الجنود، وصف الضباط من مختلف المواقع! لم نكن وحيديْن. الأمر ليس بيدنا!.‏

كيف سنصل إلى برج حمود؟‏

- توقفت عند هذا السؤال مليّاً، واعترضته أسئلة أخرى ( كيف تصل إلى برج حمود؟ وهل نستطيع المرور فوق جسر الموت؟ وكيف؟).‏

-أترك الأمر للأيام القادمة، وكل شيء في وقته، وزمنه، لا تستعجل! مَثَلُنا، مَثَلُ كل الذين تأخروا. إذا ماتوا، مُتنا معهم، وإذا وصلوا بسلام نكون معهم !. القذائف لا تميز بين محمود وحيّان، وأنيس ومحمد، لكن الحظ أحياناً يدوّخ الرأس " لوبقي أبو فارس معنا في الباص القديم لما توفي. كل الوقت الفاصل بين الباصين، هو الحظ بعينه، وكان حظنا أيضاً! ".‏

- أصبحت تتحدث عن الحظ. أعلم أنك لا تؤمن بذلك، وتعدّه خرافات وأن للأشياء، أسباباً ونتائج.‏

كانت ليلة ممتعة. الربيع يقطّع الليل، وحديث يجرّ حديثاً. تجاذبنا الأسئلة والأجوبة. تبادلنا كأسين من الخمر المثلج.. قصصاً، وحكايات طويلة. والدتي وزوجتي تصغيان. المرة الأولى التي فيها تستمعان إلى "كاسيتات" صاخبة، بهذه الحرارة.‏

الموت يخيف الإنسان. قلب الأم، ليس كقلب الابن. قلب رقيق. حبّ من الأحشاء. شعرت أنني أتكوّن كجنين من جديد. . جنين يتجذّر.‏

ليس في وقت الحرب تبكي الأمهات. الأم تبكي في أيام السلم أيضاً. تبكي إذا جُرح شعورها. تخاف إذا قرُع باب الدار بعد منتصف الليل. ترتعش أطرافها إذا رأت وجهاً غريباً يسأل عنّي، أو إذا سمعت عن قتال يدور في "نيكاراغوا".‏

- لاتحزني يا أُمّي، سأعود إليك أحمل جروحي فوق كفّي، وتسكن بيروت في جسدي. عيناي شواطئها الملوثة بالجثث والروائح. قلبي برجها المزدحم بالباعة، وقطع الحديد والعربات، وروائح الخضار والفواكه. ما أجمل ابتسامتك. الابتسامة الخائفة، والصلاة التي تعوّض الخوف. تبعث الطمأنينة. ويبقى الحزن والألم يضمدان سكينة القلب والروح.‏

لم يشبع حيّان. . المشروبات زادت من شهيته وقابليته للمزيد من الطعام. يلوك ويمضغ تطقطق أحناكه، وتبعث أسنانه صريفاً. نرفع الانخاب. نعبُّ المشروبات بشهية. تتشنج عروق رقبته، كأنها تخرج من جلده. أراقب حركات وجهه الدائري بين.بعض التجاعيد الشابة. " أتساءل عن سبب قلّة كلامه. أصبح كل شيء عنده مختصراً. أتساءل : لماذا لم يتحدث في هذه السهرة الممتعة؟ أين تسرح أفكاره؟"‏

- وضع كأسه فوق الطاولة، حدّق في وجه والدتي. "ترقرقت دموعها صافية ".‏

- تتشابه دموع الأمهات في بقاع الدنيا. أُمّي سكبتْ دموعاً غزيرة حين ودعتها.رافقتني إلى الشارع، ولكني لم ألتفت خلفي، لأنني لا أريد أن ترى دموعي. الدموع خائبة. . الدموع تشكك بالعزيمة. تُحبط المقاتل... كرر جملته " نحن لانريد الموت لبيروت. جئنا إليها حاملين رايات السلام. جئنا لنخلصها من الاقتتال.. كانوا هم المبتدئين، يسموننا بالـ "غرباء"، تعّمق في حديثه. عمّق سكّة لسانه. يغوص في وجدانه ودواخله أبحر في البحث عن الحقيقة كنّا نخطف ساعات الليل بنهم، ونرغب في أن يطول الليل ويمتد أكثر، فهذه الليلة جميلة، لكن الليالي القادمة ستكون أكثر دموساً‍.‏

البحث عن النقاط المضيئة في الظلام، أفضل ألف مرة من صباح يغطيه الضباب الكثيف. نزعتُ من عينيَّ غشاوة. أعدتُ الحديث مع أُمي، كأنني أقول لها آخر الكلمات. جمعتْ والدتي نفسها. اسندتْ ظهرها. استمعنا إليها، وهي تخصص حديثها إلى حيّان الذي بدوره أرخى رأسه قليلاً، وثبّت ساعده تحت حنكه، يتصاعد دخان سيجارته، مثل بخور الشيخ "عبد الله"، يثير البركة في فضاء ساحة البيت.‏

- البعُد يلوّع قلوبنا. البُعد يا أبنائي - عندما يصوّب نيران القتال، ينهش القلوب - قلبي يضمر، مثل قلب أُم حيّان، لم أعرف أُمّاً قلبها كالحجارة. .قلب الأم إسفنجة تمتص فرح ابنها وحزنه اسفنجة تمتص ملوحة البحر، وغبار الرياح‏

البعد يُخيفني، ينهش قلبي، حين أسمع أصوات المذيعين، وهي تلعلع، كالقذائف، أو حين أشاهد دخان الحرائق يلتهم بيروت في الشاشة الصغيرة.. الأكياس... البراميل.. الأبراج المتهدمة ... الشوارع الخالية، كمنطقة منزوعة السلاح... الراجمات تدور أعناقها في كل الجهات. يَهمُد قلبي، وتتكور حوله أنفاسي الرخوة. تفلُت صنابير الدموع، كمزاريب في شتاء ماطر وعاصف. يدور رأسي، وأنا أدور وأفتش عن الأخبار، وحينما أسمع عن عائد من بيروت، أركض إليه. أدقّ بابه. استمع إلى حديثه بشغف وتوتر. ... أنوح... أبكي وأبكي. أعود كما أتيت، أجرّ أذيال ثوبي خائبة‍.‏

قاطعها حيّان، وقال لها:‏

-نُقلت أُمّي مرتين إلى المشفى، ولولم يسرعوا ويسعفوها، لأُصيبت بالسكتة القلبية.. فجرّ قلبها خبر نقله أحد الجنود من حيّنا " الصاخور" :[ لم أرَ حيّان منذ مدة طويلة، علماً أنني لا أبتعد عنه إلاَّ مسافة قصيرة].‏

هزّت والدتي رأسها، كأن "ماحصل مع حيّان يحصل مع ابنها"، فالشهر الماضي أطلقتُ عليه شهر الآلام والعذاب.. ساعات طويلة أمضتها زوجة محمود في مركز الهاتف. . خمس ساعات متتالية دون فواصل، إلا الصبر والدموع والانتظار، لكنها عادت كما ذهبت بـ" خُفّي حُنين". هذه الليلة تختلف في كل شيء عن سابقاتها من الليالي. أوجاع تلك الليلة لا مثيل لها. كنّا واجمتين. قابعتين. معصورتين. نمضغ التأوهات. كانت دموعنا أسخى وأرق من قطرات المطر.. "بدأت دموع الفرح كاللؤلؤ تتساقط من عينيها".‏

سمعنا يابني أن بيروت كئيبة. لا ماء، ولا كهرباء. الجوع يملأ الأقبية في وجوه الناس الفقراء الذين لم يستطيعوا أن يبحروا إلى قبرص أو فرنسا. ترك الأغنياء والميسورون أوجاع بيروت. تركوها تنزف. جراحها مفتوحة للريح والبارود. بحرها يموج هائجاً. يوّدع السفن. ينثر رذاذه على أبواب البيوت المظلمة، المحاصرة. والشوارع الساكنة، المعبأة فضاءاتها برائحة الموتى والقتلى، والقمامة. ورائحة المقاتلين والمدافعين عن عائشة، تعبق وتفوح.‏

سمعتُ منكما أن بيروت هي عائشة. عائشة ابنتنا، تغزل في قلبي نسيج آلامها. عائشة ابنتنا المحروقة التي تحتاج إلى علاج طويل، وعناية كبيرة، عائشة أختكما. احتضنا حُبها في قلبيكما. اقطعا الأيادي الممدودة لاغتصابها..‏

غلطة كبيرة ارتكبها أبو شاهين، لكنه لن يغلط ثانية. لقد عاد إلى صحوته كما عرفت منكما.‏

انشرح صدر حيّان لهذه القصيدة المتدفقة من قلب أُمّ غيور. أثنى عليها، وشكرها وهذه أجمل الدروس التي أتعلمها في حياتي. يكفي. .يكفي يا أُم محمود، إنك تسكبين في قلبي نزعة الحبّ لكل الناس. أنت متسامحة، تحملين تعاليم " نهرو". تُحبين الفقراء، مجروحة. .. مصلوبة عنّا‍!.‏

بيروت مصلوبة، تنزف منذ أعوام. لم تنقطع دماؤها، الذين صلبوها وأماتوها يمرحون، مدججين بالسلاح. يجوبون البر والبحر. يقتل بعضهم بعضاً. يعبثون في جسدها. يمزقون لحمها. تقطع أضراسهم وأنيابهم أوردتها.. ونحن نحمي جسدها الواهن، الممزق. تظلّ عائشة الطفلة التي بيعت بسعر رخيص، ابنتنا. لا نريد أن نفرض أبوّتنا عليها، ووصايانا. نريد أن نحمي فخذيها، ووجنتيها من الناموس، والملوثين والمهووسين الطامعين في امتصاص دمائها، وإلقائها عظاماً ممصوصة.‏

هؤلاء كلاب مطعونة سَعْرَىْ. هذا ياحيّان هو الموقف الصحيح الذي نعمل على هديه.‏

لقد حملتَ منظارك منذ اليوم الأول، عندما وصلنا إلى " برج حمود". بدأت تفتش عن أحلام الناس. كان شريط الليل الممدود من البحر إلى " البرج"، وصولاً إلى جسر الموت.حتى " الضبيّة" ونهر "الكلب"، ينقل إلى مسامعك الوجع المتشبث بالجدران والنوافذ. كنت تسكر، وتلهو بالأجساد المتحركة حول الأضواء الخافتة.‏

اغتصبتَ عائشة في أحلامك. كانت أحلامك نارية، متوقدة، وملتهبة. أردت أن تصبّ البنزين فوق جسد بيروت، لكنك أفقت من نومك. كانت صحوتك إنقاذاً للوجه التائه، بصقتَ في وجه أبي شاهين. لعنته. خلصت عائشة من بين أنيابه المغروسة في عظامها ولحمها. الأنياب التي ثقبت قلبها وأدمته !‏

في الصباح قطعت أنفاسنا المخمورة أجواء الغرفة. شربنا فنجاني قهوة. دخّنا معهما سيجارتين، وحملنا محفظتينا.‏

ألقيتُ نظرة الوداع. قبلت طفلتي الصغيرة. سلكت مع حيّان الطريق إلى ساحة الأمويين.‏

أراد حيّان أن نغيّر الطريق، وحسبما يعتقد أنها طريق منحوسة. وسنخرب حظنا في هذه المرة.‏

علقت على رأيه: الوجوه التي كانت البارحة هي نفسها. . نفس المَلافِظْ. . نفس الرصيف، والسيارات. ... الجميع هنا في لحظة انتظار صعبة.‏

دقائق. .! وقفت السيارة. " تعربشنا " وراء بعضنا فوق السلّم الصغير.‏

تحرك الهواء وبدأ يضرب كفيّه فوق " شادر" السيارة.. صوت المذيع عاد من جديد يئنّ مع صوت المحرّك.‏

المذيع ينقل أخبار بيروت وما جرى في اليوم الفائت، ونحن ندخّن سجائرنا ونُصغي نستمع إلى آخر الأنباء، لكننا لانعلم ماذا سيحصل في الكيلو مترات القادمة !.‏

-11-‏



أغلق حيّان الراديو. قطع علينا السكون المخيم، وبدأ يغني.‏

ليست المرة الأولى التي أسمع فيها صوته. غنّى في الأيام العصيبة، وفي ساعات الحزن والفرح والسلم.‏

صوته يترنم بالقدود الحلبية. .. نردد بعض المقاطع معه، وصفقنا له. طلبنا منه الاستمرار في الغناء. . كانت الشاحنة تفتح بصدرها الأفق. تصفقها موجات الهواء. وتزيحها عن الجانبين.‏

الطريق ضيّقة. قمم على يميننا، تتدرج سفوحها، وعلى يسارنا واد عميق، وسكة حديد صدئة، متروكة منذ عشرات السنين، تصل "رياق" بـ "حلب"... العثمانيون مدّوا هذا الخط الحديدي، ونحن نمدّ أجسامنا بين "دمشق" و"بيروت" الهدوء عاد يخيّم. غفا بعض الجنود، وآخرون يتفحصون الطبيعة. كنت أُنقل بصري بين رؤوس الجنود. أرمق حيّان بنظرة. أخدش أذنه بكلمة حلوة، ثم أسوح بين القمم والوديان. أمرّ على البيوت المتناثرة في السهول، والقمم الجرداء التي تقتحمها الأشعة الباهتة. يستمر الهواء. لايتوقف عن الصفير، يحفّ بـ"شادر" السيارة. ينثر شعري. وتجوس الأفكار، وتتقلب في ذاكرتي.‏

همستُ في أذنه " أبو سركيس على نار حامية يا حيّان " كأنني صوبت ُ إلى جسده سهماً نارياً أيقظه من حلم. فتحت أوجاعه وقلبه.‏

تنّهدَ بشوق، وكأن همستي أثمرت في رأسه أو دقّت على باب ذاكرته.‏

- لا تذكّرني.. أبو سركيس، يمثل المطرودين من أوطانهم. عندما حدّثني عن المجازر الفظيعة التي تجرّعها الأرمن، كانت الغصّة تقف في دائرة حنجرته..أجرى مقارنة دقيقة وصحيحة، بين ما حدث للأرمن في مطلع هذا القرن، وبين ما يجرى لهم الآن في بيروت، في نهاية هذا القرن.‏

حوادث تتلاقى وتتقاطع، وإن كان التاريخ يختلف، لكن الأحداث تتشابه.‏

- الباشوات مثل البارونات ياحيّان. الخواجات والأسياد في قسمي بيروت الشرقية والغربية، وكذلك في الجنوب. .هم الذين يحركون الجمر، وينفخون عليه، ويقلبون النيران، كلما خفَّ لهيبها. . ألا تلاحظ كيف أن لحم الفقراء يشوى، ويتفسخ كلحم الموتى، تأكله حرارة الشمس، وهم يتفرجون على جانبي خط التماس، ويصرحون للجرائد والإذاعات من فرنسا والسويد أومن قبرص، وزمرهم المسلّحة تجمع "الخوّات"، وتنفذ دورات عسكرية في " تل أبيب".‏

وبينما السيارة تقترب من " صوفر" و" بحمدون"، كان الدخان يتعالى في الفضاء ويتوزع في سماء لبنان، والحرائق ترفع رؤوسها. وتسقط ذيولها في البحر، لكننا لم نسمع أصوات القذائف.‏

الطرق هادئة إلاّ من حفيف أوراق الأشجار.. السكون يلف الأشياء، يلتصق بالبيوت تتدلّى من الشرفات ثياب مثقوبة، معطوبة. وبقايا ألعاب للأطفال صامته.جدران مذبوحة. تسيل منها دماء محقونة في الأسمنت. فتحات واسعة. دوائر ومربعات وأشكال هندسية. الحركة خفيفة جداً للناس والعربات، ووراء المنعطفات مجارٍ للمياه، تتعرج منحدرة نحو الأودية.‏

انتبهنا للمفاجأة : "قال المذيع. . بعد قليل، سننقل إليكم أيها السادة على الموجة القصيرة خبراً هاماً!؟".‏

تعود الموسيقا الجنائزية بكل عظمتها، وحزنها، ترتطم بطبلات آذاننا. ونحن نترقب الأنباء بصمت وخشوع كأننا نصلّي. نبحث عن حاجز على الطريق يوقفنا، وربما ماذا يجري!‏

صاح حيّان: خفف السرعة يا " أبا قاسم". توقف عند هذا المنعطف. . صليات نارية من رشاشات. دويّ مدافع وراجمات.‏

أكدَّ المذيع، بعد أن قطعت الموسيقا. " عاد القتال إلى بيروت، ومناطق الجبل، وفي "بحمدون" من جديد. محادثات بين رئيس الجمهورية اللبنانية، وقوات الردع.. الأسطول السادس يقترب من الشواطئ. البابا يناشد العالم للتدخل.. زيارة مسؤول في قيادة الجبهة اللبنانية إلى تل أبيب".‏

عادت الموسيقا تخدش آذاننا. ينحدر الطريق بشدة. تفتح أشرعة السيارة جبهة الهواء الغربية. تمسك أيدينا بقوة حافات المقعد الخشبي..‏

اقتربت الأصوات، وأصبحت واضحة. خوذ الجنود تلمع، تعكس لون الشمس. معارك طاحنة، تدور رحاها من جديد. صاخبة وشرسة، تشبه معارك الشهور الفائتة.. عربة مدفع تنحرف عن الطريق. مجندون يحفرون مرابض للدبابات.‏

أراد حيّان أن يهدئ من أرواحنا قائلاً: " هذه قواتنا. إننا في منطقة محميّة، لكن...!! "‏

- ماذا؟ ماذا بعد " بحمدون"؟!.‏

- نقاط خطيرة. من المؤكد أن "جماعتنا " في "بحمدون" لاتسمح للسيارت القادمة من دمشق، بالتقدم تجاه بيروت.‏

-هذا أكيد، ولكن كيف يتدبرون أمرنا، وإن التجمع تزداد أعداده، من الجنود وصف الضباط والضباط الذين لايتمكنون الوصول إلى مواقعهم ومقرّاتهم.‏

- ننتشر مع المنتشرين، وكل واحد يمارس اختصاصه!‏

في هذا الجو المحموم يعصف موسم القتال بالشظايا والقنابل، وموسم الحصاد بالغبار. يلتصق الناموس بجلودنا. يلوّث العرق بذلاتنا الصيفية. سنموّه خوذنا وأجسادنا وأرجلنا بأغصان الأشجار، والطين. نرصد. ونقوم بالحراسة. نقف على الحواجز. نفتش السيارات المدنية. أصبحت العودة إلى دمشق في هذه الأجواء خيانة! وأصبح الهروب من المعركة جُبناً!‏

الأسئلة لم تتوقف، تتجمع في دائرتي الروح والذاكرة. تحتضن قلوبنا توجسات. نتذكر أحاديث الليل. الفرق كبير بين البارحة واليوم.‏

الجوع يقرص مَعَدنا. أخرجت من كيس " النايلون" السندويش. أكلنا وكأننا نمضغ الحصى، ووراء كل لقمة ندلق الماء في حلوقنا.‏

نهضت في نفوسنا رغبة القتال. امتلأت وجوهنا بالحماسة. الخوف مذّلة يا صديقي. الرصاص لا يخيف الرجال. ألم تسمع، أن القتال يبدأ بـ "الطلقة الأولى" ؟! وبعدها ينتهي الخوف، ويذوب، ويتلاشى. أصبحنا أشداء، وتعودنا على قتال الشوارع والمدن.‏

- قتال المدن فنّ حربي صعب، حيث يتحول كل شارع وكل بيت إلى جبهة، وقذيفة من " آ. ر. ب. ج" تقسم الدبابة إلى قسمين. قنصة واحدة تقتل الإنسان، أو تقطع ذراعه أو ساقه.‏

لو بقينا يا حيّان في برج حمود، وأجلنا إجازتنا حتى تهدأ الأحوال! وكانت محطتنا الأولى، وقفت السيارة. اصطف خلفها سيارات من مواقعنا الأخرى. اقترحت "الشرطة العسكرية" علينا أن نسرع. تسللنا وراء بعضنا. وزعونا في عدة "كراجات"، واختبأت السيارة خلف الأبنية. كانت الراجمات تقذف أربعين قذيفة في الدفعة الواحدة، وتمزق قذائف المدفعية الفضاء.‏

تتقدم الدبابات. وتُطلق مدافعها الأبواق النارية، وترجّ الأرض من شدة الضغط، ثم تعود إلى حفرها، تستعد لطلقات أخرى..‏

يمرّ النهار ببطء. استنتجتُ أن المدة ستطول، وسيطول انتظارنا! فنظفنا البلاط. افترشنا الأرض.. وجمتْ وجوهنا. ساعات الانتظار صعبة، ولا نعرف موعد الرحيل. نتفرّج. نرصد. لانتكلم. نقرأ في عيون ووجوه بعضنا، نستشف المجهول، علماً أننا لا نعرف ماذا يجري تماماً! كم عدد الجرحى، وهل سيطول القتال؟‏

نعلم أن المعارك الدائرة أو التي ستدور في المستقبل، لا ترحم، مادامت تتوفر الذخائر! يحصد القتال العشوائي الأرض والأبنية والمنشآت والبشر.‏

لحظات توقفت الراجمات، قالوا :" ارتفعت حرارة السبطانات" واستمرت الرشاشات تلعلع. والمدافع تغني، لكنها توقفت، والراجمات تهزّ أركان الأرض. يعود صداها من بعيد، ولاتصلنا إلاَّ أذيال موجات متقطّعة. بدأ الليل يحبل، وينتفخ بطنه، والجنود ينقلون المواد الغذائية والذخائر إلى مناطق القتال.‏

الظلام يغطي الطريق المنحدرة من " بحمدون". رياح تداعب أوراق الأشجار. سكون وقمر في أول طلوعه، يحبو بين النجوم.. النجوم تتراقص حوله، تزغرد لعريس الليل.‏

كانت فرحة مؤقتة. القلوب غائمة. يحتضن كل واحد محفظته الجلدية. انتشرنا، وتوزعنا في جوف الشاحنات، المكشوفة، بين براميل المحروقات. يتقدم الشاحنة " ب ـ ت ـ ر"، وخلفه سيارات تحمل عشرات العناصر.‏

هناك مَنْ كان من صف الضباط يفتح يديه نحو القمر والسماء. تمتمة، وتثاؤب، واختفاء وميض الابتسامات، والهمسات عن الوجوه. .. كأننا رماد مكوم مدهون بالمازوت، وبذلاتنا ملطخة ببقع الشحم. . حبست السيارات أضواءها في عيونها.‏

طريق فرعي على يمين الشارع الرئيس الذي يصل بين العاصمتين " دمشق وبيروت" المنحدر طويل ويمتد أمامنا كأنه بلا نهاية. . القافلة تسير ببطء شديد. تحاول خنق أصواتها في مداخن محركاتها. صرنا نتفاهم بالإشارات، كان القمر يضحك على غير عادته في مثل هذه الساعات، مما زادنا لوعة وخوفاً، وقهراً. القمر يهزأ منّا كأنه يسألنا : "لماذا الخوف؟ القصف بعيد عنكم. هذه أصوات قذائف تغرق في البحر، يرتجّ صداها، يقفز فوق قافلتكم ".‏

يشدّ حيّان جبينه بكفّه، ينظر من بين فتحات أصابعه. يلتقي بصر عيني، ببصيص عينيه، ثم تشرئب أعناق الجميع، كأن قذيفة سقطت بين عجلات الشاحنة! يا إلهي! ما أكره هذه الساعة! ليلة مُخيفة، روعتنا بظلامها، وقذائفها، وهدوئها!‏

- هل الليل الذي يطرب العشاق بلقائه، وينتظرون قدومه يخيف المقاتلين؟‏

- الليل يتحول إلى وحش كاسر، إذا جرحه أحد القنّاصة. يخيم فوق العشاق إذا طرب على أنغام الشفاه المرتجفة. . الليل الذي يرسمه فنان مبدع، وتنجح ريشته في تدرج الألوان، وتقاطيع وجهه، ليل أقرب إلى القلب، ولكن وجهه الآخر يشبه السجن والاستعمار. . المبدع ينتظر سكون الليل والقمر والنجوم ليفجرّ ومضات مخزونة منذ زمن. الليل كالأنظمة العربية لا يبكي على ميّت. الليل يراقب بيروت، وهي تحترق. يستقبل لهيب الحرائق كي تضيء وجهه. يغمره الفرح، ثم يبدأ، يغسل الجثث المسجّاة على الأسفلت البارد والحامي.‏

دهن الليل شارع الحمراء بالحزن، حول أبنيتها ومحلاتها، ومطاعمها إلى خرائب. صبغ الواجهات، والشرفات بالسواد، وفتح أشداقها للهواء اللزج الذي يحمل ملوحة البحر ورطوبته.. هذا هو الليل ياصديقي محمود!..‏

- عرفت قسمات وجهه، والتجاعيد المخيفة. لعنتُ في تلك الساعة هذه الصور المروعة. مزقت أثواب الحزن. وباركت في نفسي " الشاش الأبيض الذي يضمّد الجراح ويبعث فينا الأمل"‏

المسافة لا تزال طويلة، وتطول، والمنحدر هو هو، بل يزداد شدة. القافلة تسير هادئه دون إشراقة أو ابتسامة. ترافقنا الأشجار. يطربنا حفيف الأوراق، وأصوات القذائف يجمد قلوبنا. ظلّ الرشاش المثبّت في ظهر ال" ب ـ ت ـ ر" يدور ويتحرك نحو الأمام والخلف. وعندما يتجه نحونا تأنس قلوبنا. ونشعر بأمانته، ، وسهره الطويل. هؤلاء المغصوب عليهم واجمون، لاهون بالخوف والسكون. وموقعي في الزاوية، موقع استراتيجي، خلف الجدار الخشبي، أراقب من خلاله الجميع. أتحسس مشاعرهم. ألقي بصري فوق وجوههم، كأنني أسكن في داخل كل واحد، وأعدّ همساتهم، ونبضات قلوبهم. أدرس تداعياتهم وأفكارهم.‏

خفف الـ" ب ـ ت ـ ر" سرعته. انحرف يميناً. ظهرت أمامنا فجأة أبنية وشوارع مستقيمة ومتعرجة، ضيّقة، ثم انحدرت قافلة الشاحنات خلفه، تئن، كأنها تحمل جرحى، وموتى. وفي تلك اللحظات الصعبة، إذا عُصِرت أجسادنا، لا تنزف سوى قطرات ماء، ودموع صفر. لا أعلم جيداً إذا بال بعضهم تحته!.‏

توقفت الشاحنات. هبط الجنود يحملون محافظهم. تضرب أقدامهم الأرض ضعيفة الخطا وئيدة.‏

تسللنا وراء بعضنا بعضاً في مدخل طويل لبناء تابع لقوات الردع. هبطنا السلّم عشر درجات تحت الأرض. كانت الأنوار والأحاديث في فضاء القبو الواسع تطمئننا.‏

ويرتدي جنود الاستطلاع لباس الميدان الكامل، كأن الحرب الطويلة قادمة لا محالة.‏

بعضهم يتناول الطعام. آخرون يستلقون على أسرّتهم وآخرون يتسامرون. تمددنا على الأرض. شربنا الماء. غسلنا وجوهنا، باستثناء حيّان الذي قبع في الركن، انفرد بنفسه. خلع " سدارته". أشعل سيجارة. حدّق إلى الوجوه. علّه يتعرّف أحدها. لأنه كما قال لي: " إن له أقارب في قسم الاستطلاع"‏

كان الليل ينتصف. خفّت حدة القذائف. أصبح الزمن بين القذيفة والأخرى متباعداً. وحينما وجهت سؤالي إلى أحد الجنود - هو الوحيد الذي فَردَ وجهه وابتسم - عمّا حدث في اليوم الفائت؟‏

- هل أنتم أغرار؟ تعودنا مثل هذه الحالات، نتحرك أثناء القصف إلى مناطق بعيدة. ننفذ مهماتنا بسهولة. نرصد القوات المناوئة وتحركاتها.‏

ونلتقي بـ " عيوننا" في نقاط محددة. نتلقى منهم آخر الأخبار، عن التعبئة والجاهزية.‏

- نحن من الكتيبة المنتشرة في شرقي بيروت، ومنذ منتصف العام هناك. أخبارنا تعرفونها. سمعتم عن المعارك فوق الجسور. وقرب المجلس الحربي!‏

- إذاً لماذا الخوف؟‏

- الطريق موحشة. الليل كوحش في شتاء قاسٍ!‏

- أيام قليلة، ستتحرك كتيبة من قواتنا، قادمة من صيدا إلى بيروت الغربية، وهي مع قطعات عسكرية أخرى " مشاة - مغاوير - مدفعية - راجمات "ستكون جاهزة لدعمكم، ومساندتكم.‏

تصاعدت أصوات الشخير، متدرجة بخشونتها، تتوقف أحياناً أنفاس النائمين، ثم تشكل هجوماً واحداً. قنصات تئز أزيزاً ناعماً، ويتضخم صوتها إذا اصطدمت بالأبنية.‏

بدأت خيوط ضوء النهار ترسل محبتها إلى الشوارع والحدائق، والستور الرملية، والترابية، تعبر الشقوق. تودع الليل، بنهار جميل. كنت أتمنى، وأشتهي أن يكون نهاراً " دمشقياً"، يقدر كل واحد أن يرسم أحلامه، أو يزرع حلماً في تربة لا تعرف الخوف. عندنا في دمشق الحبيبة، يلتقي العاشق بحبيبته مطمئناً، لا يعرف الخوف أبداً! وتستطيع الأم أن تودع ابنها، ويضحك الأطفال، ويتدافعون، ويتصايحون حينما يقذفون كراتهم، وهم مطمئنون، لا يفكرون بقذيفة تنتظرهم..‏

لم أرَ في تلك الشهور التي أمضيتها في بيروت، أطفالاً يلعبون في الشوارع...الحدائق مهجورة، ومغلقة، وأسوارها مهدمة، وأبوابها مخلّعة، أعشابها محروقة، أشاهد في أوقات الانفراجات المحدودة أطفالاً يحملون أسلحة بلاستيكية، يرتبون أنفسهم في جماعات، وفرقاء للقتال. سمعتهم مرة في " برج حمود " يتجاذبون أطراف الحديث عن أنواع الأسلحة، وأرقام المسدسات... و... و...‏

الصباح يمسح نهار" سن الفيل" بروائح الحرائق، تقف بشموخ سحب الدخان بيننا، وبين النافذة الخرساء التي تطل منها الشمس، لكنها اليوم اعتذرت عن زيارتها لنا!‏

هجر النوم رأسي. . عيناي متوهجتان من السهر والقلق. وعاد الصمت يقلّم أظافر أفكاري. رأسي يمتلئ، ويحبل بألف كلمة، عشرات الصور تتجمع في ألبوم الذاكرة.‏

- كيف نقضي يا حيان هذا النهار؟‏

- صباح آخر. الشمس ثابتة. لاشيء في شوارع بيروت. سوى الأبنية ومرابض المدفعية، والدبابات. . لا تخف، فهذه قيادة اللواء. . اطمئن، هنا أكثر استقراراً من منطقة "الدورة". لا يوجد جسر للموت، بل ساحة معبدة وشوارع تتقاطع مع بعضها بعضاً.. راجمات، وملاجئ. . الموت يبتعد عنّا حين يرى هذه الأسلحة. يحوم الذباب الأزرق، ويئزّ، يلاحق رائحة الموتى. كلاب شاردة اتخذت من الحفر مأوى لها. هل أنت كلب؟‏

- أتمنى أن أكون، وإذا حصل يوماً، وأصبحت أقفز على الأربعة، فأضع رأسي بين قفص أصابعي، وأطمس عينيَّ في الأرض.‏

مسافة قليلة قطعناها. انحرفنا " شلّة" من الجنود وصف الضباط باتجاه أحد الأبنية، تعرّفنا على " قلم اللواء" - الديوان _ فسجل أسماءنا وأبرق إلى "قا. ك" : عشرون مجنداً وصف ضابط - التحقوا صباح اليوم بقيادة اللواء - وضابط برتبة نقيب".‏

وزعنا "رئيس القلم" على الفصائل الملحقة بقيادة اللواء. حملت محفظتي. انطلقنا، أنا وحيّان. التجأنا إلى أحد الأبنية. وفي أحد ممرات الطابق الثالث، افترشنا البلاط. نمنا، نوماً عميقاً، ولا ندري لأكثر من ساعتين ماذا حلَّ بالعالم!‏

ليلة عيناها حمراوان كعاصفة. البناء يرتعش، ويرتجّ، كأنه يتحرك فوق نوابض فولاذية. النوافذ تتراقص وتهتز. استقبال جميل وحافل!.‏

تمددت فوق البلاط، ألقيت على جسمي المُنهك من التعب شرشفاً. انتصف الليل.. أسمع شخير حيّان وأنفاسه، تتقاذفها نسائم رخوة، رطبة، مالحة. ألوان طلقات خُلبّية ترقص أمام النوافذ. تُقبّل الجدران أحياناً بشوق. الساعات تمرّ وئيدة، وكل دقيقة تتساقط عشرات القذائف. أصوات مكوكية لجنازير الدبابات. مكبرّ صوت اعتقدت أنها نداءات للرحيل، لكنها كانت دعوة:" على عناصر الكتيبة رقم. . الاجتماع في الطابق الأرضي".‏

وقف حيّان. أعاد ترتيب ثيابه. هبطنا معاً. كانت عناصر كتيبتنا تهبط من الطوابق. علمت أن جميع المتخلفين، يجتمعون!‏

عقارب الساعة تقترب من الثالثة صباحاً. ضجيج الموت وارتباكاته، يلوح بإشارات الخوف والقلق. الدنيا حمراء. لهيب وحرائق وانفجارات. . قتال المدن، كما يقولون، من أصعب أنواع الحروب. حُفر هجرتها القذائف، حولتها إلى مدافن، خالية. نسائم كريهة وروائح الأدخنة. . ضباب يلون الساحة المحاصرة بين الأبنية.‏

تحلقنا حول " النقيب" لكونه من أقدم الرتب العسكرية. . حليق الرأس.. وجهه صورة للجنون._ حين يشعر المرء بالخوف، تتحول شجاعته إلى جنون _ أما الخوف كصفة مودعة في قلب الإنسان، فهو مكوِّن رئيسي للمخلوقات العاقلة. . الجبن تخاذل، وتدمير للنفس والروح والعقل. السؤال الآن الذي تبادر إلى ذهني: هل نُقدَّم طعاماً للرشاش، أو لصياد يفتش عن العصافير في هذا الصباح البارد؟‏

شعور ضرب أوتاده في القلوب. الموت يعبث في دواخلنا. شكلنا دائرة، أو طوقاً حول " النقيب " في بهو الطابق الأرضي. فبدأ يهدد، ويتوعد كل مَنْ يتخلف أو لا ينفذ التعليمات، وعن الخطة قيد التنفيذ قال: " هذا هو السلّم _ كما تلاحظون. . ستنقلنا سيارة "غاز 66"، باتجاه نهر بيروت، هناك نهبط بواسطة هذا السلّم إلى قلب النهر، بعدها، نتسلل إلى مقرّنا "‏

أخطار محدقة في المنطقة المحصورة بين "سن الفيل" و" جسر الموت"، وبين "جسر الموت" و "الدورة".‏

حملنا محافظنا. كنّا نستبشر بصباح يختلف عن صباحات الشهور الماضية. أصبحت الدنيا تدور. يحفر الخوف في قلوبنا دروباً وحفراً. تبدلت الألوان. . الخبر نزل علينا كالصاعقة. لم نصدّق الخبر. اعتقدنا أنه يجرّبنا، ويمتحن قدراتنا، وقوتنا!‏

اصطفت الشاحنة على جانب الطريق. رفعنا رؤوسنا، فتحنا أيدينا نحو السماء نستغيث، ونطلب الرحمة. رتلاً واحداً تقدّمنا. . صعدنا والـ " ب ـ ت ـ ر" يتقدّم السيارة بعدة أمتار، عليه رشاش. قرأنا الفاتحة في هذه الساعة المجنونة. جنون العظمة يقودنا إلى الهاوية. أَمنْ المعقول أننا نصل بسهولة إلى برج حمود؟ سؤال كبير، وكبير أخذ يتسرّب بصعوبة إلى أفئدتنا وأرواحنا!‏

سؤال للموت، وسؤال للحياة! أفكار ليس لها بداية ونهاية، تمتزج بالرطوبة. وكان الخبر الذي عوّض، وأزاح عن كواهلنا بعض الهموم، وصول كتيبة مشاة من " صيدا" إلى " سن الفيل"، وكتائب مدفعية، ووحدات خاصة، ودبابات، وراجمات إضافية، واحتياطات أمنية كبيرة. . وقبل أن تنطلق السيارة، المحملة بجثث الأحياء، المجردين من أسلحتهم، سوى قلوب، بعضها يرتجف، وبعضها تغرد نبضاتها للصباح وتغني.‏

كان الهجوم التمهيدي صاخباً في ذاك الصباح. أفواج الدبابات تتحرك نحو حي، "النبعة" ركزّت المدفعية سموتها، وأخذت مواقعها تنتظر الإشارة، للتمهيد المدفعي، والراجمات تقذف الصواريخ بغزارة. أما ناقلات الجنود، فتمر مسرعة، تخترق الأصوات وتتعرج بين القذائف والرصاص، والألوان.‏

كانت سيارة الغاز "66" التي تحملنا تتوقف كل عشرة أمتار أو أقل عندما يداهمها الخطر، أو تتصادم الأضواء المنفلتة من القذائف الحارقة مع الإسفلت، وتدور بين العجلات، عندئذ كنّا نهبط قافزين إلى الأرض، ثم نصعد ثانية، عندما يصرخ النقيب في وجوهنا، ويهددنا بإنزال أقسى العقوبات، وهكذا تكررت هذه الحادثة مرات ومرات.‏

الموت بلا لون أو رائحة، أو طعم، كالهواء، يهبّ كالعاصفة. ومَنْ يعشق الموت في هذه الساعة يكون قد أجرم بحق نفسه!. الموت دون مقابل!‏

ومَنْ يبحث عن الحياة في هذه اللحظة أيضاً، :انه يتمّسك بقشة. وبين صورتين أو لوحتين : لوحة للحياة، ولوحة للموت يتقافز سؤال كبير " ما العمل؟" وكررت هذه الجملة مرات! هل ينقذني الهروب من هذه الجولة الساخنة؟ أم أضع رأسي بين الرؤوس، وليكن ما يكون!‏

لا داعي للتشاؤم، وتقديم الأجوبة السريعة، مادام الصباح بدأ ينشر خيوط الضوء فوقنا. وكانت المفاجأة أننا تجاوزنا منطقة " سن الفيل"، وهاهي السيارة تنحدر نحو جسر الموت.. الدبابات تتراجع أمام قذائف الـ " ر ـ ب ـ ج ـ " الغزيرة التي تسلّط فوهات سبطاناتها من النوافذ. ضجيج الموت. الأنين، وأصوات الجرحى، تختلط كلها بنيران كثيفة. . لا أصوات تعلو على أصوات الدمار!‏

- هل نصل يا حيّان سالمين؟‏

- ماذا بك؟ غارت عيناك، هبطتا في نُقرتي وجهك. يبدو وأنك تفتح يديك نحو السماء، تطلب الرحمة!‏

- الموت. . تقترب ساعة الوداع. أشعر أنها الساعة الأخيرة. رشاش في الجهة اليمنى يكّثف نيرانه باتجاهنا، والسيارة هدف مباشر له، خاصة أنها تنحدر بسرعة، وتميل على جانبها. في هذه الحالة، لا مجال للكلام. أو طلب النجدة ولا ندري كيف قذفتنا من أحشائها مرة واحدة. أصبحنا بلا حماية، فوق إسفلت الشارع، حينئذٍ التجأنا إلى أقرب بناء يواجهنا، ووصل عدد من الجنود إلى مقرّ سرّية تابعه لقيادتنا تتركز قرب جسر الموت. وتراجع آخرون إلى سن الفيل.‏

في الصباح عدتُ " أنا وحيّان" إلى مقرّنا في سن الفيل، وإلى المكان نفسه فوق ظهر درج إحدى الأبنية المهجورة، لكني لم أعد أسأل عن السلّم المعدني. السؤال الذي ظلّ يحاورني ويطارد شرودي، ويقف أمام صحوتي، وهو : لماذا هذه الخطة الهوجاء الجهنمية، فهي منذ أن تكوّنت، وتجمعت خيوطها في رأس النقيب الحليق، لا تحمل أية بادرة للنجاح، فالفشل حليفها!.. وهل عدم وصول الجميع إلى جسر الموت جريمة؟ وكيف نصل ونحن دون سلاح، محملين فوق حديد، تتراقص حولنا القذائف، وتزغرد ألحاناً للموت؟ كيف يمكننا مواجهة آلة الدمار بأجسادنا؟‏

- الأمر سهل ياحيّان. تعال معي إذاً، لمواجهة النقيب بما حدث لنا!‏

وإذا لم يصدّق، لكل حادث حديث!‏

- أجانبي : سيعاقبنا! ألا تسمع أو سمعت بعقوبة مَنْ يهرب من المعركة!.‏

- نحن لم نهرب. أعتقد أنه لا يوجه لنا مثل هذه التهمة.‏

- أخالف رأيك تماماً! سيقول :" عقوبتكم الإعدام" وسنخسر وسام السلام الذي منحتنا إيّاه حكومتنا، وقيادتنا العسكرية في دمشق مقابل دفاعنا عن بيروت الجريحة!‏

- أهذه خيانة يسمّيها! كيف سنصل إلى برج حمود، والسماء تمطر نيراناًً، وتفور الأرض ببراكين من الصواريخ والقذائف!!..‏

- ألم تسمع ما قالته إذاعة " مونتي كارلو" :[ بيروت تحترق. فضاؤها يتمزّق، أصبحت عارية فوق الشاطئ، وتسبح في بحر من الدماء]. وتكاد أذنايّ تخدشان. ضجيج الروح يخترق قبّة رأسي. دوّخني صوت المدفع / ب. ا/ ما أبشع صوته. سلاح متخلف، من بقايا الحرب العالمية الثانية، لكن مفعوله كبير جداً، ويدمر أهدافه بدقة. تخترق قذيفته كل ما يعترضها.‏

- مارأيك أن نستغل هذا الهدوء الحذر، ونفتش عن "الرنكوسي". لعلَّ عودتنا إلى سن الفيل تحمل لنا منافع كبيرة تعود علينا بالخير!‏

التمعتْ صورة الرنكوسي في صفحة من دفتر الذاكرة. صورته وهو يعزف على حروف الآلة الطابعة، أوامر الحرب والقتال في قبو تحت الأرض. يتمنى أن يرانا، كما نحن نفكر الآن، ونتذكره.‏

يلوذ حيّان بالصمت والتفكير، والتداعي، كأنه لا يرغب في هذه الأجواء المحمومة إدخال أفكارٍ جديدة، أو تمنيات وأحلام إلى ساحة أشواقه التي يستعيدها بافتخار إلى قلبه. يريد، كما أشعر وأستشف من ملامحه، أن يحافظ على ومضة قديمة، متجذره، تشعل قاع ذاكرته المتيبّس. ظلّ الصمت متجمداً، يغزل أمام ثقب في بوابة فؤاده طرقات من الرقص والغناء الخفيفين، والخافتين! أعتقد أنه يفكر في المستقبل البعيد! ومن الجائز أنه تجاوز " الكرنتينا" أو منطقة الجسور أو "الدوره" وهذا ماكنت اتصوره. وحينما انقطع حبل تفكيره وتزاحمت الهموم في رأسه، وقلبه، انتفض كديك يبحث عن دجاجة، لم يرها منذ فترة طويلة!‏

- قال : يقلقك وضع الرنكوسي. تتساءل مع نفسك : هل أنجب؟ وما هو شكل الطفل القادم؟ ذكر أم أنثى ؟. وتشغلك هموم أخرى. أما أنا فتلاحقني موجة صغيرة. غيمة تزحف فوق جسدي. تمسح وجهي بأريجها. ترشّ قطراتها المصبوغة بالعشق والحنان. لا أفكر في "الدورة" أو " البرج". تشغلني عائشة. نحن محاصرون عند أهلنا، وفي مواقعنا، وهذه قواتنا، وهي كذلك تستقرّ آمنة في مقرّ كتيبتنا. الحصار الجسدي أهون بكثير من الحصار النفسي والروحي!‏

نفسي محاصرة. محاطة بأسلاك. لساني تخزه الإبر والأشواك، وتدميه. الهمّ الوحيد الذي يثقلني، ويلحّ عليَّ، أن أصل سالماً، وأراها. همّك يامحمود أن تعانق الرنكوسي، وتعرف أحواله بعد هذا الغياب.‏

- قلت : حينما تتقاطع الهموم، وتلتقي فوق الجسور، ثم تتوزع في هذا الفضاء الملوّث بالأنين، والروائح والقتلى، ويصبح الرنكوسي أحد هذه الأشياء وجزءاً منها، لا يمكنني إخلاء المساحة التي يحتلها في تفكيري!‏

صورة ألفنا النظر إليها، والتمعن فيها، حينما تجمهرنا، نودع قافلة من الشهداء، حملتهم شاحنة، ورحلت، لكن رائحة الموت تسمّرت في أنفاسنا، تختلط بروائح البارود والقذائف. . وزجاج مكسّر. وبقع من الدماء تجمّدت، ورسمت على البلاط أشكالاً أخرى.. وكان هذا من حصاد الليلة الماضية!..‏


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:27

-14-

عائشة الآن ترصد بيروت من منظار حيّان. ترى نفسها. تبحث في جسدها عن الشظايا. تعلك عصارة الموت. تغزل قرب الشاطئ أحلامها. يفقدُ حيّان جزءاً من مشوار القتال الطويل. ويفقد أيضاً منظاره الذي تعرّف بوساطته على بيوت لم تطأها قدماه. وكان يكتفي بسرقة النظرات عبر النوافذ المفتوحة ومن خلال الأضواء الخافتة، ذات الألوان القزحية. أما الرنكوسي، فهو مُتعب، ومرُهق، عندما يضجر يبدأ بالعزف على آلته الطابعة، كأنها آلة موسيقية، ولكن في هذا الوقت، لا تنفع الموسيقا، ولاينفع الطرب. فكل شيء يطغى على أرواحنا، حتى الأشجار ألقت بأغصانها، وأوراقها. .. أصبحت عارية أمام الناس، وأمام الله، هجرتها العصافير. أنظر إلى هذه الطيور، إنها فقدت ريشها، وتكاد أجنحتها تتقوّس، والقوارب تشق الأمواج، وتطفو فوقها.. وعلى سطح الماء أوساخ وأقذار، ومازوت. . جثث مطوقة برغوة حزينة. . شواطئ كبّلت نشاطها القذائف، كقلب عائشة.‏

- ماذا نعمل الآن؟ أين السلاح الذي وعدونا باستلامه ؟. لاعمل لنا سوى أننا ندور بين الأبنية. نتسلق سلالمها. نفتش فوق السطوح عن القناصة، وعن الطلقات الفارغة. نعدّ الثقوب والحفر. لقد سكنت المدافع إنها استراحة الرُماة ولا نسمع إلاَّ زعيق سيارات الإسعاف!‏

تناقلت الإذاعات أخبار معارك اليومين الفائتين. وجاء في موجز الأنباء : "مشافي بيروت تغصّ بالجرحى والمصابين. خمسون قتيلاً في "النبعة". آلاف القذائف تتساقط".‏

لانعلم شيئاً عن كتيبتنا، وماذا حلَّ بها!. الأخبار مقطوعة. لو نجحت خطّة النقيب كنّا قد وصلنا بأمان، لكن لا ندري في أي وقت سنصل!‏

هنا يا حيّان نأكل وجبة واحدة، نتعامل كضيوف، والضيف في الحرب ثقيل كضيف المساء الذي ليس له عشاء.‏

وكان الخبر مزعجاً، حين حلَّ دوري في جلب الطعام. أثقل رأسي بهموم أخرى.ناقل الخبر" أُصيب الملازم بركات " قائد فصيلة الدبابات" بشظية في عينه، مما دعا إلى استئصالها.. ونقل إلى المشفى العسكري في دمشق".‏

مسكين الملازم أول بركات" رُفّع إلى رتبة ملازم أول قبل أسبوع من إصابته"، ورغم زواجه الذي مضى عليه سنتان، لم ينجب حتى الآن. اصبح بعين واحدة! جرح في القلب، وجرح في الجسد، هل يتحمّل، وهل تحتمل زوجه هذين الجرحين؟‏

كان حيّان يأكل بنهم. منذ أيام لم يذق الطعام، أو يدخل إلى معدته شيء وأنا لست أفضل منه.‏

ملأنا معدتنا بالبرغل والعيران و"صمونتين" يابستين. وقف حيّان بعد الظهيرة على سطح بناية عالية. وضع كفّه فوق سقف عينيه كرفّ. حدّق إلى فضاء الكتيبة، مملوءاً بالشوق والحنين. طوفان من الرغبة يسري في عروقه. أُصيب بمرض "الغربة" خلال الأيام الأربعة التي قضاها بين دمشق وسن الفيل. يتأمل ساهياً. تلوك أفكاره آمالاً جديدة.‏

- لاينفعك التأمل، بل يزيدك آلاماً. ابحث في وضعك الآن، وفي هذا المكان. سنبقى في هذه المرابض المبلّطة، وفوق الأدراج، وفي مداخل الأبنية حتى انتهاء وجبات المعارك... معارك حامية، تتدفق رُعباً، وخوفاً، وجنوناً.. ألا تلاحظ أن القوى المناوئة أدخلت إلى مناطق القتال أسلحة جديدة، ومتطورة، من المدافع والراجمات والدبابات. ألا يكفي أن بيروت استضافت بقسميها الغربي والشرقي جميع أنواع الأسلحة، عدا سلاح الطيران، فمازال محايداً حتى الآن. والأيام القادمة لا تولد إلاّ الدمار والموت... سنبقى مشردين. ننتقل من موقع إلى آخر، ومن كتيبة إلى أخرى، ومشروع النقيب أخفق، كما أخفق هجوم الدبابات، حين وصلت إلى منطقة "النبعة" وذلك بسبب التقديرات الخاطئة.‏

الشمس تميل دون قلق. تنحني قرب الأفق. وجهها الأرجواني يغتسل في البحر. ظهرت ضاحكة بعد أن خفّت، وتقطّعت موجة الدخان، وسكتت المدافع لقضاء استراحة قصيرة.‏

نزل حيّان من سطح البناء. يقفز فوق الدرجات. عادت الابتسامة إلى وجهه.. تلونت بالأمل، كأنه " شاهد عائشة تتزين أمام مرآة وترتدي بذلة جديدة".‏

التفت إليّ وقال: اعتقد أن خزانات المحروقات في "الدورة" تشتعل. تدفع ألسنة اللهيب دخان الحرائق نحونا، قادمة من برج حمود. ألا تلاحظ أنت!. ونحن نتجاذب الحديث اخترقت طلقة من قنّاصة، الزجاج، ارتطمت بقوة في سقف الغرفة.‏

- هذه هدية لك، لأن القنّاص كان يرصدك أيضاً! يراقبنا، ولا نراه... فأنذرك بهذه الطلقة التحذيرية، ونبّهك بألا تصعد مرة ثانية إلى السطح! أنت من يعرف أكثر منّي. أصبحت ابن هذه الأرض. تعرفك وتعرفها، ألا ترى أن المعارك، ونيرانها تكاد تنتهي، بعد لحظات الهدوء، ووقف إطلاق النار! ومنذ شهور وأنت تعيش ليلاً ونهاراً في قلب المعارك، ومع القذائف، والمنظار، ويمكن أن أطلق عليك "الخبير العسكري المتمرد"!‏

- امتعض !. تعجّب من هذه التسمية. أجابني بشيء من القسوة والجفاف!‏

- المنظار، ثم المنظار! ألا يحرك لسانك يا محمود غير هذا المنظار!‏

- تحمله أيد أمينة. .الآن تحمله عائشة التي ترصد مثلك، لكنها ترصد قبور الناس الأحياء. ترعاهم بعينيها. تدفئهم بأريج قلبها، وأنفاسها. إنهم حينما يشعرون بالاطمئنان ولو كان مؤقتاً، تعود حياتهم اليومية إلى طبيعتها، وتعود المحبة المهاجرة إلى فضاء أنوارهم الخافتة. ترصد عائشة أفئدة الناس وحياتهم. . ولا يغيب عن ذاكرتها ابن المعلم، والمسلّحون، والحشاشون الذين ضاجعوها بوحشية. عندما يعكس لها المنظار هذه الصور الخارجية، والباطنية، يتسلل إليها الخوف الذي يحمل رُعب الماضي، واغتصاب الحاضر، وما يدور فيه للمستقبل الضائع.‏

وفيما كانت رحى النقاش تدور، كانت بعض القنصات تقطع أحاديثنا.. بدا الغروب تائهاً. وقلبانا يمران في دروب بغير أرصفة. يقفزان بين الحفر. يفتشان عن أمان واطمئنان. بدأ عُنقانا يشرئبان. يتطلعان نحو قادم، يفتش عنّا. وحين سمعنا طَرَقات أقدام، صمتنا‏

همست في أُذنه : - إنه رسول النقيب!‏

-حلّت بنا المصائب!‏

- لاتخف !ماذا جرى! أهي خيانة! أنت تكبرّها فتكبر. صغّرها فتصغر! وعلى حجم المخالفة، تكون العقوبة. فإذا لم نستطع مواجهة الرشاشات والقذائف المعادية، ونحن عزّل، ودون أسلحة أو حماية مباشرة. فهل هذه خيانة؟‏

طوال هذه الشهور، ونحن نقاتل. زال الخوف بعد الطلقة الأولى. كما كنّا في الماضي، نحن الآن أشد عزيمة وأوفر معرفة وهمّة، وسنصدّ، ونواجه أية تخرّصات لا تتماهى مع الحقيقة. وإذا طُلب منّا أن نلتحق بالسرية المنتشرة قرب جسر الموت، فسننفذ التعليمات العسكرية، ونلتزم بالأوامر. . ومَنْ يخالف حينئذٍ فهو مُدان. ويخالف الوطن كله!‏

قبل أن نرافق رسول النقيب عادت إلى ذاكرتي "صورة الرنكوسي وهمومه، وأين هو الآن".‏

انحدرنا في طريق ترابية، وسط غابة الصنوبر والأرز، تمتد على سفح وطيء. أحجار، وصخور. . طريق وعرة، وأشواك حُرقت رؤوسها. ابتعدنا عن الأبنية. وصلنا إلى الشارع الرئيس، الواصل بين سن الفيل وجسر الموت. توقفنا قليلاً عند حاجز لقواتنا.‏

أسدل الغروب ستائره. حلَّ الظلام في الشوارع والأبنية والقلوب، باستثناء أصوات يتبادلها المسلّحون مع قواتنا في الجانب الآخر من الشارع، طلقات وقذائف متفرقة، تتقاسم حصصها من الأشرطة المتبقية من أسلاك الكهرباء والهواتف، أو تتنازع فوق زجاج النوافذ والإسفلت، وأكياس الرمل، والمساند التي تحمي الجنود.‏

بقي جسر الموت صامتاً، جائعاً. جوفه ينتظر معارك قادمة. روائح الجثث المسجّاة. بقايا قطع اللحم. دماء تخثرت، ودماء تجمّدت. . أمعاء مقصوصة. أيدٍ مقطوعة. . أصابع مفرومة، وموزعة على طول الجسر وعرضه.. تلاشى الخوف في نهاية الشارع. انعطفنا في شارع فرعي يصل إلى مقرّنا الجديد.‏

كانت المهمة الأول التي كُلفنا بها، بعد مقابلتنا النقيب، أن ننضم إلى سرّية أخرى. تجاهلنا كلماته البذيئة. صممنا من جديد على القتال، ثم القتال حتى النهاية!‏

وصولنا إلى مقرّ فصيلة الكيمياء، قرب جسر الموت، قرّب قلوبنا إلى كتيبتنا. أصبح الهواء المندفع نحونا من برج حمود، يتدفّق شوقاً.‏

سجّل المساعد " قائد الفصيل " اسمينا. أدخلنا في عداد فصيلته عنصرين احتياطيين يزّجنا في أية مهمة متى يشاء.‏

فصيلة الكيمياء في متناول القوى المناوئة، لا تبعد عنها دُشمهم، وأسلحتهم إلاَّ مئات الأمتار، لكن البناء الذي تنتشر فيه هذه الفصيلة بناء كبير، جدرانه سميكة.‏

ويتسع لمئات العناصر والأسلحة...‏

نظرات حيّان لا تتغير، كعادته وضع كفّه فوق حاجبيه، تسمرّت عيناه، يحدّق بعيداً، إلى المرابض، والمساند المرتفعة. يتطلّع بصبر وهدوء. مستطلعا معالم المنطقة، متعرّفاً مواقع الرشاشات الثابتة، والمتحركة، المحمولة على سيارات جيب.‏

- قلت: هؤلاء هم الذين زحفوا وهاجمونا في المجلس الحربي والدورة. لا تبعد كتيبتنا عنهم سوى خمسمائة متر فقط.‏

- لا أرى مكاناً مناسباً يستطيع النقيب اختراقه، والوصول إلى الهدف؟! أشرت له! ألا ترى نهر بيروت، وجوانبه الأسمنتية، الملساء‏

- الخطة كانت التسلّل أحدنا وراء الآخر، والنزول إلى قاع النهر بوساطة السلمّ، ثم محاذاة الجدار البيتوني للوصول إلى منطقة الجسور، وبرج حمود.‏

- إنها عملية جنونية، ولا ينفذها إلاَّ مجانين. ألم يفكر بان القوى الشريرة تواجهنا، ومن السهل اصطيادنا.. حتى الذبابة لا يمكنها إيجاد ممرٍ لها في هذه المنطقة.‏

- إذا نجحت العملية، فسيكون مدبّرها، والمخطط لها بطلاً من الأبطال!‏

شكر حيّان ربّه. انسابت أنفاسه وملامحه مطمئنة!‏

- أفضّل لو بقينا هناك في سن الفيل.. هنا الأخطار محدّقة بنا، والمكان غير مطمئن، سنظل في حالة تحفّز واستنفار طوال اليوم.‏

- هنا نحن أقرب. المسافة قصيرة بيننا وبين "جماعتنا"، ويبدو أن المساعد المسؤول عن الفصيلة من نوع آخر. أتراه احترمنا وكرّمنا، وقدّم واجبات يصعب تحقيقها في سن الفيل.‏

- أحياناً، هذه المظاهر تكون مُخيفة، خاصة إذا كان الداخل في حالة انفصام مع الخارج - الظاهر يُخفي أشياء، والداخل يخبئ أشياء لا تتصل مع الخارج. وعلى كل حال سنتعرف خلال الأيام القادمة أكثر عليه، وعلى عناصره. وأنت ستكون نائبه فلا يوجد في فصيلة الكيمياء سوى عنصر برتبة عريف.‏

في هذه الليلة احترم المساعد مشاعرنا. أحاطنا الجنود بالمحبة والأسئلة. عرفوا قصتنا، ومسيرنا خلال الأيام الفائتة. أكلنا وشربنا الشاي معهم. كل شيء موجود ومؤمن. الطعام والماء والقهوة والشاي والسكر وأدوات جلب الطعام، والبطانيات، والأسلحة الفردية والقنابل والكمامات والعوازل. توزعنا داخل البناء. أشار المساعد إلى كومة من الكرتون المكدّس في إحدى الزوايا. قال: " افرشوا هذه الكراتين تحتكم، واختاروا المكان الذي يناسبكم". وفي الصباح نفكر بالمهمات التي سنوليها إليكما وطبيعة عمليكما.‏

اخترت حفرة مهجورة كانت مكاناً لغسل السيارات. فرشت رزمة من الكرتون النظيف. أخرجت شرشفاً خفيفاً من محفظتي لألتحف به. اختار حيّان زاوية في الجهة الشرقية. رقد كصخرة أتعبها المنحدر. تعالى شخيره وتعالى. أما عيناي فهما في حالة أخرى، تتفقدان السقف العالي. يثقب بصري الجدران، متفقداً جسر الموت والشوارع المطلة عليه.. همسات ضعيفة تتوافد من شقوق الباب. وفي بعض الأحيان تشقّ الصمت قذائف بلا أهداف، أو رشات "صليات" من رشاش"14.5 مم " قادمة من سن الفيل أو من " الأشرفية"، لكن النوم أراحني من التفكير، أسبلتُ جفنيّ، وكانت متاعبي تتفجر في أحلام وهلوسات..‏

نافذة وحيدة، كبيرة، مثبتة بالأسمنت المسلّح. تلامس أرض البناء، تسمح للضوء بالدخول، وللشمس حينما تشرق، أن تتخلل البلّور المدهون بالطين والغبار... ولم أفكرّ أو نفكرّ مرة أن قذيفة ستخترقها، وتخلعها من مكانها، وأن تتحطم الحجارة، أن تصل الشظايا والحجارة المكسّرة إلى الحفرة. هذا ما حصل في فجر اليوم التالي لوصولنا!‏

كان حيّان في حالة من الاستغراب والاستهجان! وهكذا جميع الأمكنة والمناطق يسودها الاضطراب وعدم الاستقرار، إنها حالة حرب أهلية صعبة !‏

وقف كالمجنون حينما أحدث صوت قذيفة زلزالاً في البناء. هبّ الجنود مذعورين. قَدم النقيب وعناصره من البناء المجاور لنا. توافدوا على دفعات، يتساءلون عمّا حصل، حاملين أسلحتهم الرشاشة والبنادق والصواريخ المحمولة على الأكتاف.‏

ثم عادوا إلى أمكنتهم حين تأكدوا عدم وجود إصابات بيننا..‏

هجرنا النوم في الساعة الرابعة صباحاً، غادر الظلام فسحة البناء، انسحب أمام هجوم الأشعة القادمة إلينا بحزن. أشعل الجنود أجهزة الغاز الصغيرة لإحضار الشاي. أصبحت كواحد من عناصر الفصيلة. انعدمت أو تلاشت العلاقة الرسمية، فأبو زهير "المساعد"، وخلال هذه الأيام، تطورت معرفتي به وكأني أعرفه منذ زمن طويل، تركته يقوم بواجبه الديني. التفتُ نحو حيّان الذي كان يلملم نفسه ويركز تسريحة شعره، فمنذ أيام لم تعرف وجوهنا الماء.‏

- هل تعرف أن شعوراً ينتابني الآن، بأن هذا اليوم سيكون هادئاً؟‏

ضحك، كأنه يشكك في كلامي.. سألني عن الدلائل التي أدت إلى وجود هذا الشعور!‏

أسند إلينا المساعد مهمة الحراسة ليلاً في نقطتين متباعدتين خارج البناء. وعند موعد الحراسة تسللنا عبر طريق سرّي من خلال طاقة واسعة مفتوحة في الجدار الذي يطلّ على شارع فرعي، للوصول إلى مكان الحراسة.. حيّان ينحني خلفي.. ثم نقفز، وبذلك نختصر الطريق، ولا نعرّض أنفسنا إلى أي خطر..‏

اختلف شعوري، أُصبت بإحباط، وملل. كل يوم يمضي تزداد الأمور سوءاً، وهذا الشعور موجود أيضاً عند حيّان. اتفقنا أن نتأقلم كلياً، وأن نندمج جسدياً وروحياً مع الناس والمكان، وأن لا نفكر بالزمن.‏

وهكذا تتالت الأيام والأسابيع. . حراسة، وحراسة ونوم، ورصد، وإطلاق قنابل ورصاص وقذائف، وعدم تفويت أية فرصة تسمح لنا بالرّد والمواجهة على أي اعتداء. . تجمعنا الحُفرة. نتجاذب الأحاديث، والقصص التي سمعناها في الليل، وتصوير المشاهدات...‏

كان حيّان في حالة الجاهزية الكاملة. خوذة عتيقة. بطانتها الداخلية متيبّسة، سوداء، ولا أعلم كم من الرؤوس تنقلت فيها، ويحمل قنابل يدوية، وأنا مثله أجلس على حجر خلف ساتر من الأكياس. أوجه البندقية إلى مصادر الخطر.‏

بجانبي " هاتف" عسكري أسود استخدمه عند الحاجة. أحدّق إلى الفراغ. الأبنية فارغة. الشوارع خالية من الناس، والإشارات الضوئية. روائح كريهة تفوح على دفعات متقطعة. تنقلها الرياح من جسر الموت. ذباب يحوم يفتش عن مكان آمن فوق أجسادنا! تكوّر حيّان كفأر في الحفرة بعد مجيئه من حراسة ليلية مُتعبة. تبلله قطرات الندى، والرطوبة. تبدو آثار مسامير حذائه فوق البلاط.‏

في تلك الليلة - ربما تكون الليلة الأخيرة في هذا المكان - جلسة هادئة من المباحثات بيني وبين حيّان. . فكرة كانت تدور في رأسي، بل دارت عدة دورات، واستقرت هانئة في مركز تفكيري. علّقت مخالبها في سقف رأسي، وأبعدت عنها الأفكار الغريبة. ولم أدرِ أو أُدرك أن حيّان تتجاذبه أيضاً هذه الأفكار. أدركت أن تصوراته تدغدغ شرايين روحي وذاكرتي وقلبي. سأتركه يتلو ما يجول في نفسه، وإذا ابتعد قليلاً عن تصوراتي، أُصحّح له. أصغيت إليه جمعتُ حواسي. تسمرّت عيناي في عينيه.‏

- ما رأيك يا محمود، أن ننفذ خطة النقيب، ولكن بشكل آخر. نحن " الاثنين" يمكننا التسلل في ليلة مظلمة دون أن نحمل سلاحاً أو سلّماً أو محفظة. نهرب بثيابنا، وأشار إلى المكان الذي يمكننا الانطلاق منه.‏

- القناصة ماذا يعملون؟ ودوريات الأحزاب الدائمة. ليلاً نهاراً، أَمُغفّلة إلى هذه الدرجة! أفضل الحلول أن نخلع الملابس العسكرية، ونبدّلها بملابس مدنية. نترك صرير الليل، وصريفه، ووجع النهار. نعود إلى حبيبتنا الرابضة على طرف نصف قوس قرب الشاطئ. نترك نهر بيروت الواطئ. نتنقل عبر بيوت " النبعة " من الطرف الغربي. بيوت مهجورة، خالية. نؤمّن البطاقتين العسكريتين في محفظتينا.‏

أخرج حيّان بطاقة شخصية لبنانية، مازال يحتفظ بها منذ أن كان يعمل في بيروت، يسكن في حيّ " الكرنتينا ". آنذاك، كان الحصول على مثل هذه البطاقات أسهل من الحصول على كأس ماء. . وأنت ماذا ؟!‏

- لا أملك هوية تعريف بشخصيتي. أترك الأمر! بدأ يشرح الخطوط العامة للخطة بإسهاب.. أسأله عن التفاصيل، وعن. . وإذا لم تنفذ بحذافيرها!‏

- أي خطأ سيوقعنا في مصيدة الموت!‏

بدلنا نوبة الحراسة. تقترب الساعة من الثانية صباحاً. انقطع كل شيء. . سكون!!‏

بعض الطلقات تضيء السماء، لكنها في مناطق بعيدة عنا.‏

رسالة صغيرة كتبتها بخط كبير وواضح. تركتها على جانب لوح من الكرتون، كان يفترشه أبو زهير للصلاة : " نحن ذاهبان إلى مقرّنا في برج حمود. التوقيع حيّان ومحمود"‏

للظلام رهبة، كما للبيوت المهجورة. أنا وحيّان شخصان في رسول واحد، يفكفك الفضاء ويشقّ طريقه بمعرفة كافية، وتخطيط مسبق، وبعد أن نفد صبرنا!‏

حيّان يقيس الدرب، يخطو أمامي. أتبعه. أضع قدمي، مكان قدمه، وهكذا. . كان يتوقف كلما قطعنا عدّة أمتار. بُلنا ثلاث مرات خلال ربع ساعة من بدء المسير. العرق البارد يسترسل فوق جسدينا دون حدٍ أو مواجهة. يتصبب على وجهينا، لكني لم أرَ وجهه بل تتعثر قدماي بجثّة يابسة، خرقت أطرافها، وخرجت وجنتاها. تكسرّت أسنانها. أدوس أحياناً فوق بطن منتفخة. . أتحرك خلف حيّان، وإذا همس بكلمة، منعته بوضع يدي على فمه.. همساته خشنة، تتكوّر في حلقه وتخرج ككرة ممزوجة باللعاب.‏

توقفنا كثيراً، تلطينا بمحاذاة الجدران. انبطحنا، حينما تُسلط علينا الأضواء الكاشفة من مناطق مرتفعة. . تتنقل الأضواء من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، تتعامد أحياناً فوق حاويات القمامة، وتترافق مع أصواتهم وضحكاتهم.‏

- لا تتحرك. انبطح على الأرض بسرعة. التصق جيداً. تمسّك بأي شيء! أسبل يديك. . ستكون أية حركة مهلكة ومميتة. وحين انقطع الضوء الكاشف تحركت سيارة. نزلت تتهادى في الانحدار من " كرم الزيتون" باتجاه منطقة النهر.. وكان القمر ساهراً معنا، يرافقنا، مد ذراعه من الشرق.‏

- قلت : من الأفضل العودة إلى مكاننا، قبل أن تشرق الشمس. وإذا كان للقتال دور في هذا الصباح، فستكون الأدخنة، والحرائق، وننسحب بعدها في الطريق المعاكسة، ونعود من حيث أتينا. تعكرّت الأجواء. دارت معارك حامية، دفعنا إلى اللجوء لأحد البيوت والاختباء فيها ريثما تهدأ الأمور.. حوصرنا على امتداد ساعات النهار دون ماء وطعام. كنّا في ملاجئنا نرصد تحركات المسلّحين وعدم وجود إمكانية إيصال البرقيات إلى المساعد أبي زهير، أو إلى أية جهة. كنّا أيضاً نقوم بعدّ القذائف الهابطة فوقنا، القادمة من مصادر نجلهها! هذه قذيفة هاون "120مم"، وهذا صاروخ محمول فوق الكتف. ولم يبخل القناصة بالرصاص المسموم الذي يئزّ، ضارباً الجدران، والأعمدة المتبقية في الشوارع.‏

أفكاري تغزل نسيجاً من الخوف. وهمّ العودة من الهموم الصعبة، ولم يكن اختيارنا في هذا الوقت دقيقاً. اقترحنا عدة اقتراحات، ووضعنا عدة احتمالات، تشابكت مع بعض القصص " هل نقوم بالاتصال بقيادة الكتيبة؟ كيف؟ تصورنا أبا زهير يغدو ذهاباً وإياباً بين مقرّه، ومقرّ النقيب، وهذا بدوره يهدر ويزبد يهدد ويتوعد".‏

الساعات تمرّ، تتقطع ثقيلة، خائبة، صعبة، مملة. انتزعنا من صفحتي وجهينا الخوف من أولى الخطوات، حينما توجهنا نحو أبي زهير. علمنا بعد وصولنا أن المسافة التي قطعناها قصيرة جداً. وكان يبحث عنّا، يفتش بمنظاره، يرافقه جهاز اللاسلكي، وكان على اتصال دائم بسرّية الإشارة في كتيبتنا. لكن كل هذه المحاولات لم تجدِ أبداً!‏

ازداد شريط المصاعب طولاً، وازدادت ارتباكاتنا حينما قابلنا النقيب وكان المساعد واقفاً إلى جانبه. استقبلانا بالتهديد وإصدار العقوبات.‏

سألنا النقيب: من أين هذه الشجاعة، متى امتلكتماها؟ إنكما تخترقان هذه المنطقة سيراً على الأقدام. ألا تعلمان أن الدبابات تراجعت أمام كثافة قذائف الـ " ر. ب.ج"! ولوكنتما كذلك لماذا هربتما عندما أردنا التسلل عبر نهربيروت؟!..‏

كنّا صامتين، دون حراك. رددت في نفسي :" التهديد لا يجدي أية منفعة. تعودنا على البهدلة" والخوف والجوع والعطش، ولم يبقَ إلاَّ القليل. سنعود. سنعود إلى كتيبتنا. هناك الأمان، ونشعر بالاطمئنان ونحن في قلب المعارك".‏

قفزنا من الطاقة. . هبطنا خمس درجات. تكوّر كل واحد في محرسه. ظلّ حيّان يتأمل وجه الليل، يصوّب سلاحه باتجاه الشارع الآخر!‏

جلست خلف ساتر المحرس، أخذ رنين الهاتف يعلو. رنين متواصل في جوٍ هادئ، مغسول بالضباب، والعتمة، والشتائم.‏

أخيراً زفّ أبو زهير خبراً:" توصلت الأطراف إلى وقف لإطلاق النار"‏

وكان حلماً نهايته في الصباح، حين فتحت عينيَّ لأرى رتلاً طويلاً من الشاحنات القادمة من برج حمود، تقطع جسر الموت.. تحيات الوداع المتبادلة. . سيارات محمّلة بالذخائر والأسلحة والأدوات وأخرى تجرّ المدافع، تركت وراءها أبنية تهبط، تشتعل فيها النيران. . كان كل شيء محطماً، وكأن أسبوعاً من المعارك الطاحنة انتهى بهدوء مفاجئ، وقرارات تمَّ تنفيذها.‏

بقي حيّان في حالة نفسية صعبة. لم يصدّق ما يجري أمامه.‏

ظلّ يبحث عن جواب لأسئلته. . وصدَّق أخيراً حين صعد في سيارة غاز"66"‏

السيارة نفسها التي نقلتنا في ذاك الصباح المشؤوم !‏

- أضحك يا حيّان بعد هذه الإجازة الطويلة. ستعود إلى نقطة الحراسة، وتقوم بالرصد من جديد. القتال توقف. السلام أخرس كل الأسلحة، ورسم فوق المصفحات رايات بيضاء.. ستعود بيروت إلى صفائها، ومحبتها للبحر والشواطئ وستتعالى ضحكات الناس. . كل الناس، والجنود، والشوارع، والأبنية، وسنشرب " البيبسي كولا" ونحن نرفع أعناقنا نحو السماء. تتلاقى عيوننا مع الشمس!‏

-17-‏

جلسنا على مقاعد الشاحنة المثبتة على الجانبين. السيارة تقطع أوتوستراد النهر العريض. تسوح عيوننا. نتفقد الفضاء، والأبنية واللوحات. نسبر دواخلنا والزوايا المعتمة فيها. نضيئها على قدر استطاعتنا، وحجم الضوء الباقي فينا. وعُدنا إلى الذكريات...‏

- هل تتذكر صاحبة الدكان في " الكرنتينا" ؟‏

- لماذا خطرت لك هذه الفكرة؟‏

- لا أريد أن أعود بذاكرتي إلى ذلك المكان اللعين. أتصور الآن عائشة، منذ أسبوع تتجول طليقة في روحي. تحسس جسدي. تسبح في شراييني، كسمكة تفتش عن صنّارة صيّاد!‏

- أجبني برّبك : هل تتذكر " أم جميل"؟ هذه المرأة الجميلة، القادمة من جنوبي لبنان! مازلت أتساءل: كيف بقيت في هذه المنطقة؟‏

لم أدرِ، ولا جواب عندي!‏

- أعتقد يا محمود أنها تنفذ مهمة، لقد تعرّفت الأسماء والرتب، ولم تقصّر في المتابعة لكل الأمور.. كانت تؤمّن المواد التموينية، وحاجات الكتيبة من البضائع والسلع اللبنانية، خاصة الكاسات والمحارم والثياب وسراويل الجنيز وربطات الخبز بأسعار أقل مما هي عليه في المحلات الأخرى!.‏

- هزّت هذه التساؤلات، والملاحظات ذاكرة حيّان، فعاد خطوات إلى الوراء. فتش بيوت المنطقة وشوارعها وأزقتها الفرعية. سنتان قضاهما في هذا الحي، لكنه لم يسمع بـ " أم جميل"!‏

هل تتذكر عندما كنا نشرب "البيرة" فوق الجسر، وقرب دكانها. كانت تستغل انشراحنا وتسألنا عن أسماء الضباط المناوبين. لقد كانت على صلة بالمجلس الحربي.. الجميع يحبونها ويحترمونها، ويتصلون بها كل يوم.‏

هزتنا حركة الشاحنة حينما انعطفت فوق جسر يرج حمود، وهبطت الطريق المنحدرة. التفتّ إلى عمق النهر، فمازالت الدبابة منبطحة، تستند على جدار أسمنتي. ثم أشار حيّان بإصبعه إلى مكان شهداء الكتيبة الذين دفنّاهم في هذه الأرض، بجانب معمل الحديد في تربة حمراء.‏

تفقدتُ الجميع. وبقيت أبحث عن عائشة. ولم أتجاسر أو أتجرأ على السؤال عنها بهذه السرعة. قلت: سيكون آخر الأسئلة! وسيغطي "حاجب" " قا.ك" بقية ساعات النهار بالأحاديث الطويلة. لأنه يعرف كل شيء يدور في مقراتنا وفي الشارع. أضف إلى ذلك أنه يستمع إلى جميع الإذاعات. أمّا حيّان، فأولى المبادرات التي تجول في أفكاره، هي اللقاء مع أبي سركيس.‏

استقبلتنا عائشة بدمعتين وابتسامة شفيفه رقيقة كشفتيها. توقفتُ أتأملها من قدميها حتى رأسها. . أأنتِ عائشة التي تركناها. أصبح جسدك مرآة مضيئة، ورغم كل هذه القذائف، والدمار المخيّم فوق سمائك، لا تزالين تضحكين. وتحدّقين إلى الوجوه المنهكة من التعب والتنقل والخوف والسهر. أسبوع وأنتِ تسكبين الدموع. تفتشين بمنظارك عن دروبنا، وأمكنتنا، ومواقعنا، التي تحمَّلت، وتحملنا نحن أيضاً الكثير من الجوع والآلام. تتربصين في كمين من أجلنا...‏

أتأكد الآن أنك لم تَنْسَيْ عندما دخلتِ علينا! حين نقلتِ لنا أوجاع السنوات الملتهبة التي أنجبت الدماء والموت والتشرد. لم تَنْسَيْ أسراب البعوض، والناموس التي هجمت عليك جائعة في تلك الليلة. هل نسيتِ عندما بصق حيّان في وجه أبي شاهين النذل حين ضاجعك مرتين في ليلة واحدة؟ لماذا تصمتين بعد هذا القهر الطويل؟ متى تغادرين بيروت، وتودعين شواطئها المكسوّة بالرمال، وتطبع أقدام المسلّحين فوقها جراحاتك؟ ألا تريدين البحث عن ابن المعلم الذي فضَّ بكارتك؟‏

تحبل عائشة بالصمت. أرخت رأسها، فانحنى نحو القاع، وانسحبت دون أن تتفوّه بكلمة واحدة.‏

بيروت في هذا النهار تضحك من قاتليها وأعدائها. تشرب من البحر بسلام وطمأنينة. تبعث الحنين هدوءاً دائماً، من بين ضلوعها، قلبها يتفجر شوقاً لرؤيتنا. تسيل المياه فوق جروحها، فتزداد ألماً وعشقاً إلى سنوات ما قبل تدميرها. تحرسها من الاتجاهات كافة، وفي أحيائها المدافع والراجمات. ويدور المسلّحون في أزقتها، يبحثون تحت ظل أروقتها عن أشيائهم، يحجزون في أقبيتهم السرّية الأطفال الذين قطعوا آذانهم، وأعضاءهم الجنسية، وفضّوا بكارات البنات.‏

يأسرونك يا عائشة في بيروت. يفتشون عنك. لا يريدون أن تعيشي بسلام. أقسموا أن يعكرّوا صفو حياتك وهناءك، ويطاردونك طوال العمر. وحينما لبّينا نداءك لحمايتك وحراستك من هؤلاء الأوغاد، اشتعلت المعارك.‏

لم تسنح لنا فسحات الهدوء القصيرة أن نتمتع بك. حافظت أسلحتنا على جاهزية دائمة. ننام فوق البلاط العاري. نضع أحذيتنا تحت رؤوسنا. مخّدات صلبة "مريحة"، لكن خبزك، ونبيذك أيقظا في نفوسنا شدة معاناتك، ولوّن بحرك وملحه أجسادنا. أغُلقت مسامات جلودنا.. امتزجت رائحتنا، برائحة شوارعك، ورائحة أنوثتك، فلا تندمي على هروبك ولجوئك إلينا من خفافيش الليل. لأنك أنقذتِ ما تبقى من جسدك، وإنك تحبين الموت من أجل الحياة. ومن أجل أبنائك كنتِ تضحكين، وأنت تنزفين. يرشح حنان الأمومة منك فوق الشوارع وتتدفق من قلبك أمطار من العواطف السخية. ومَنْ تُطفئ جمرة في قلبها، تفقد إنسانيتها، وتحرق نبضاته.. أعلم ويعلم كل الناس أنك لا تتحملين مسؤولية ما حدث لك!‏

يتحمّل حيّان جزءاً من المسؤولية، وأنا كذلك! آنذاك لم نكن نملك القدرة الكافية. انهالت علينا الاتهامات من كل صوب، أننا نتدخل في حياتك الخاصة، وعلماً أنك التي طلبتِ منّا المساعدة. الآن، لاتملكين القوة كي تحاكمي اللصوص، والخونة الذين عبثوا بجسدك، وشوهوا مرآة قلبك، عندما غسلوا جسدك بدمائك ودموعك، وجعلوا ثدييك يقطران حليباً مرّاً، كالصبر. حاولوا أن يقتلعوا أسنانك، ويخلعوا فكيّك، ويقطعوا لسانك، لكنهم، ومهما حاولوا لن يستطيعوا، لأنك تجثمين فوق صخرة، متعمّقة في البحر، ومتجذّرة في صخور الشواطئ!‏

تحمّلت، وصبرتِ.. وها أنتِ تعيشين باطمئنان بين جنود يحرسونك، ويسهرون الليالي خلف رشاشاتهم، ومدافعهم.‏

نحن أبناؤك وإخوتك. أنت حُرّة، تطلقين التسمية التي ترغبين فيها ونحن نستمع إلى مناجاتك، ونطلب من الله أن يتركك تُعيدين تضميد جراحاتك، وإنْ تركناك وابتعدنا عنك، سنرسل لك الدواء حتى يعود جسدك إلى نضارته، جسداً ناضجاً يقصده الناس من كل بقاع الأرض. وترسو في شواطئك البواخر، ويحتفل أبناؤك برأس السنة، والميلاد. يصفّق أطفالك فَرَحاً، ويهتفون مع القادمين والعائدين باسمك، ينزعون من وجهك إبرالشوك، ويغسلونك بدموع الفرح. كانت تقف أمام النافذة القريبة مني. صوتي يرتفع، وهي تُصغي إليّ فرحة. تنحدر دموعها فوق وجنتيها. تقول في نفسها :" رغم وجودكم، ومازال جسدي ينزف. سكاكينهم أقوى من بنادقكم. أنتم تطلقون الرصاص والقذائف على أجسادهم، وهم يمزّقون جسدي وروحي. وجرافاتهم حملتْ بيوتي وأحيائي القديمة، ألقوها هناك ركاماً وتركوها خرائب.."‏

لا أدري يا محمود إذا كان والدي الذي باعني بأبخس الأسعار، يفتش عني الآن! لا أعتقد أن ثمني الذي وضعه في جيبه، صرفه خلال هذه المدة، ورغم ذلك سأرسل له حاجته، إنّي قطعة منه. لماذا لا يسأل عني؟ أنا عائشة ابنته. مازلت أتذكر جيداً أنني ابنته، وبدأت تعدد أسماء أخواتها البنات منهم والصبيان، لم تخطئ في ترتيبهم حسب أعمارهم، وأطوالهم، وذكرت صفاتهم الجسمية.. "نسي والدي عائشة، ولم يسمع بما جرى لي!! "..‏

أتذكر جميع الأشياء. . قريتي المعششة في بطن الجبل وصعوبة مسالكها ووعورة ممراتها.. وفي الشتاء تحاصرها الثلوج، فتصبح قطعة من الطبيعة وتنفصل عن العالم طوال فصل الشتاء...‏

أتذكر رائحة الأزهار المرتعشة، والراقصة فوق السفوح وفي جوانب الأودية. أتذكر الأتان التي كنت أسوقها أمامي. أحمّلها الحطب، والعشب والماء. الأيام الطيبة لا تعود، ولا يمكن أن تعود!.‏

تركتنا عائشة، وغابت. حبل رأسي بأوجاع جديدة. تخدر جسدي. تمددتُ مسترخياً، وكانت السماء تعود إلى صفائها، رياح قادمة من البحر تحمل أدخنة، تنتحر أمام الشاطئ، وتبتعد، تتعمق البواخر في المياه، وأضواء خافته تتسلق الأمواج. حرّاس يراقبون في هذا السكون، الأنوار الضعيفة، المتجمعة في البيوت. ضجيج يتعالى، وصخب من السيارات العائدة من المنتزهات.‏

نمتُ نوماً عميقاً. لم أفتح عينيّ إلاَّ حين بدأت أشعة الشمس تمسح وجهي بأصابعها الطرية، قادمة من الشرق. ترسم فوق سطح المياه والأبنية ظلالها. وكان الصباح أجمل من الليل هذه المرة!.‏

-18-‏

" الهدوء يسبق العاصفة"!!‏

يتسرّب الهدوء إلى الأبنية والشوارع والجسور. في الصباح كان جسر الموت قطعة أسمنتية حيّة. حركة كبيرة، ومارة، تبعث الأمل والحياة.‏

أمور مكررة كانت تزرع في أحلامنا مزيداً من الشعور بالانفراج:" وقف إطلاق النار - اتفاقات، واجتماعات - انفراج نسبي - الحذر في خط التماس بين شرقي بيروت وغربها".‏

تحوّلت لحظة الأمل المنتظرة إلى حقيقة. عشرات السيارات والشاحنات الكبيرة "تاترا" وقاطرات ومقطورات، محمّلة بمئات الصناديق الخشبية والحديدية. . اسلحة وذخائر، ومواد تموينية أُدخلت إلى شركة التبريد.‏

رتل طويل من الشاحنات. جنود يستعدون لإفراغ السيارات وتجميع الصناديق في وسط ساحة واسعة.‏

وزعتُ المجندين على السيارات، شمّروا عن سواعدهم، وكان العمل شاقاً، وطويلاً، ابتدأ مع شروق الشمس، وانتهى في منتصف الليل.‏

لا خوف بعد هذا التاريخ، تمَّ تأمين الذخائر من مختلف الأنواع والأحجام، وكان بين كل طبقتين من الصناديق، طبقة من المعلبات والمواد التموينية، والطبقة الأولى كانت أكياس طحين، نقُلت إلى فرن في برج حمود، الذي تحوّل لخدمة عناصرنا، وتقديم الخبز للسكان والعسكر.‏

ازدادت المخاوف من عودة القتال من جديد، وهذه دلائل واضحة، تشكل احتياطاً طويل الأمد، فلم تعَدُ الكتيبة بحاجة إلى إمدادات في حالات مفاجئة، وذلك لعدة شهور قادمة!‏

كانت بيروت نقطة هامة فوق خريطة العالم.. نقطة حمراء محاطة بالأسهم الزرقاء. خريطة تتصدر مكاتب الرؤساء والمسؤولين والقادة العسكريين.‏

أصبح السلام حديث الساعة ونقطة في جداول الاجتماعات، ويتداولها الناس في البيوت وأماكن العمل، والمدراس..‏

أحلام تبدأ من انتصار "الثورة الفبتنامية"، وتنتهي في بيروت. . أحلام تنبض بالفرح. توزع ورود الأمل. تنثر العطورهناك فوق جبال لبنان وبقاعها وجرودها، وعلى شرفات الأبنية. . الناس من كل الأعمار والأجناس، ينظرون إلى الشرق. يتمتعون بأشعة الشمس. يتمنون أن تطفأ الحرائق، وأن ترمم البيوت، وتنظف الشوارع من الأوساخ والرمال، والجثث، والسيارات المعطوبة. أن تتوقف هجرة الشباب، والعائلات، كل هذا، لم تتوقف الأعمال، لتأمين الملاجئ، وتحسينها، والبحث عن أماكن احتياطية لا ستقبال المفاجآت‏

شارك حيّان في نقل الذخائر، وأكياس الطحين. تقف عائشة إلى جانبه، تسانده.‏

- أنت فرّان ماهر، وعائشة تُجيد فن الطبخ. لقد وصلت مئات الأكياس إلى فرن برج حمود، قرب بيت أبي سركيس.سنأكل خبزاً مقمرّاً طازجاً من يديك. ولم تحتل المعارك القادمة، مهما كانت حامية، حيّزاً كبيراً في ساحة تفكيري، فالاحتياطي يكفي ويزيد، وإذا انتهت الحرب فسنترك طحيناً ومعلبات وسكراً ورزاً وبرغلاً للأهالي، ونتفيأ في ظل الأبنية بعيداً عن الأوجاع والهموم، وجنون القذائف.‏

- لا تطمئن. . لا تطمئن! هذه الاحتياطات مؤشرات واضحة والتحضير لأيام عصيبة قادمة. فمقابل ذلك. . انظر! ألا تلاحظ، وهذا بادٍ للجميع أن مئات السيارات الصغيرة تتجه من "الدورة" إلى "الكرنتينا"، فيها عشرات المسلّحين، و "الملاّلات" القتالية، وبينهم فتيات يرتدين بذلات عسكرية.‏

لم يكن وجود عائشة بينا بأمر يُثير التعجب والاستغراب. ألا ترى جعب الذخائر مشكوكة في صدورهنَّ. وفوق ظهور بعضهنَّ. أجهزة اللاسلكي وقنابل تتدلّى على جوانبهنَّ، معلقة بخصورهنَّ.‏

أُعلنت مساء ذاك اليوم صفارات الإنذار، بداية الخطر. خَلَت الشوارع من الناس. نزل الأطفال والنساء إلى الملاجئ. تتابعت تحرشات المسلحيّن بقواتنا.‏

القناصة أعلنوا بدء المعارك من جديد. تمَّ خرق وقف إطلاق النار. وأعلنت صحف القوى المناوئة حرباً إعلامية بذيئة، من خلال تلفيق الاتهامات، وتدبيج المقالات، والأحاديث، والمقابلات، حول قواتنا، وإطلاق تسميات مُختلفة " قوات الاحتلال" و" القوات الغريبة "و "الغرباء"، ووزعت المناشير، والبيانات في مواقعنا، تحرّض الجنود للتمرد على القادة. والالتحاق بقواتهم.‏

لم تجدِ الحرب النفسية نفعاً. قواتنا مرتفعة المعنويات. تُتقن فنّ الإصغاء. وتفسير ومعرفة ما بين الكلمات والسطور. مُعززة. الروح المعنوية عالية، وتتنامى أيضاً الروح الدفاعية على نحو جيد.‏

أثناء الجولة التفتيشية القصيرة التي قام بها " قا.ك" على نقاط عناصر الكتيبة، وبعد انتهائه منها، أبلغني الحاجب "السواس" عن حاجة " قا.ك" إليَّ. أحضرتُ معي الخرائط القتالية. قال: " سنحمّل على الخريطة المواقع الجديدة للقوى المناوئة، وما طرأ من تطورات على حالات الدفاع والهجوم".‏

التحضيرات عالية المستوى. المواقع محصّنة. خطوط اتصال بين جميع السريا، والفصائل "سلكية، ولا سلكية". أبدل "قا.ك" غرفة العمليات، فانتقلت إلى بناء آخر، وفي غرفة سرّية في قبوٍ تحت سطح الأرض بتسع درجات أو أكثر، وتمَّ تأمين غرفة عمليات احتياطية، لملاقاة المفاجآت بأفضل الاستعدادات، في أجواء، ملّبدة بالحرب، ومشحونة بديناميت الإنفجار، والهدوء المخزون في براميل قابلة للاحتراق في أية لحظة.‏

تباينت وسائل الأعلام المكتوبة والمقروءة والمسموعة، محلياً وعربياً، وعالمياً.‏

وشدَّ الانتباه ما بثته إذاعة " مونتي كارلو" التي حملت أنباء مغايرة لكل الإذاعات، منذرة بقدوم الحرب. ولم تفاجئنا البرقية المرُسلة من "قا.ل" :" احتمالات القتال من جديد في نهاية هذا الأسبوع. ارفعوا الجاهزية إلى الرقم "1". يمنع التحرك خارج الحدود الآمنة للسرايا والفصائل. إيقاف الإجازات. سنرسل لكم طبيباً آخر وسيارة اسعاف سريع، وأدوية متنوعة. لا تبدؤوا أنتم القتال.. .. أخبار عن تحشدات آلاف المسلّحين في مشارف منطقة "الدورة" و"الأشرفية". أسلحة إسرائيلية جديدة تُفرّغ في مرفأ "جونية". وافونا بتقاريركم صباحاً ومساءً. مرتين في اليوم ". "قا.ل"‏

بعد مرور ساعتين، وقبيل الظهر، استدعاني "قا.ك" مرة ثانية، فبرقية أخرى قادمة من "قا.ل". . حللتُ رموزها. . وبين الكلمة والكلمة. كنت أجفف عرقي المتخندق في شاربي وذقني.. ترجمتُ الرموز.. أعدت ترتيبها، وصياغتها. كان حيّان يسجّل معي حتى السطر الأخير. حينئذ، سلّمها للقائد، بينما كانت عائشة تحضر الشاي، و"قا.ك" يُعيد قراءة البرقية. دققّ، وتمعّن، قلب ما بين السطور هزّ رأسه، كأن إشارات تعجب واستفهام تنتصب أمامه، كهذا الفضاء العاري من الغيوم. .. نهض بخفّة، وقوة، واستعجال، وأجرى اتصالات مع جميع السريا والفصائل، ودعاهم إلى الاجتماع في الساعة الثانية عشرة ليلاً. الأمور واضحة تماماً، ولا حاجة للتأويل والتفسير! استكملت النواقص. الجاهزية عالية. كل شيء مؤمّن. تدارك "قا.ك" الأمر فوراً، وفرز حيّان بصحبته مجموعة من العناصر الذين يمتهنون صناعة الخبز في حياتهم المدنية. . فرزهم إلى الفرن في برج حمود، لتـأمين الخبز الطازج يومياً.‏

وهذا ما حدث !!. . وكأن رائحة البارود، وهدير الأمواج، ودوّي القذائف والصواريخ لن تبرح رؤوسنا لحظة. وبعد استراحة استمرت أسبوعاً واحداً، تعرضنا لهجوم مُباغت من البحر. زوارق حربية تصبّ نيرانها وتسلّط غضبها وحقدها من الشواطئ. صواريخ كثيفة، قادمة من البحر، تُصيب بعض مواقعنا. وأكثر ما تعرضت لوابل من النيران، السرية المنتشرة قرب الشاطئ. . قذائف مدفعية توجه سبطاناتها وتسدد نحو البحر.‏

أصدر " قا.ك" أمراً. .." إلى قادة السرايا والفصائل التابعة والملحقة بالكتيبة، اللجوء إلى الملاجئ فوراً، وعدم الرد، ريثما تنتهي هذه الموجة، ونتلقّى تعليمات جديدة من " قا.ل". الحذر، واليقظة من المسلّحين، والمتسللين الذين يقتربون من مواقعنا".‏

مساء.. عاد حيّان، وعائشة، صعدا إلى الغرفة في الطابق الثاني. دخل أبو شاهين والحاجب( السواس). صعدتُ بدوري لأجلب صندوقاً من الذخيرة إلى غرفة العمليات.‏

كانت عائشة تستلقي على السرير، ويستلقي حيّان على سرير آخر.‏

تقترب قدماه من قدميها. تقابلها من الجهة الأخرى أقدام أبي شاهين والسواس.‏

دوّي صاروخ. زعزع المكان. فتح الجدار. ضرب قبّاناً في مركز التشغيل. وصل إلى الغرفة. . قطعت الشظايا جسور الأسرّة، وخرج من الجدار المقابل بسهولة دون عوائق، يتلاشى في أجواء بيروت، لكني، لأ أدري أين وصل بعد ذلك.‏

غبار كثيف يحجب الرؤية في الطابق الثاني. صراخ وبكاء. اعتقدت أنهم فارقوا الحياة، لكنني رأيتهم يخرجون.. صعد بعض الجنود. وجّه نائب " قا.ك" من مكبر الصوت، دعوة لعودة الجميع إلى أماكنهم، رافقته في الصعود، لتفقّد المكان. . دماء وشظايا، وأتربة. . حديد مقطّع. جدران مهدّمة وطاقات مفتوحة. . يستلقي حيّان على الأرض. تبحث عائشة عن مكان النزف. وحرثت شظايا صغيرة، حادة وجه أبي شاهين وظهره... التصقت شظية في قدم عائشة اليمنى.‏

مسحت عائشة وجه حيّان من التراب، قدّمت له الماء، عاد وعيه، وفتح عينيه مستغرباً ما حدث له ولزملائه، قال:" لو أن قدميَّ اقتربا سنتمترات من قدمي عائشة، لقطعت أرجلنا الأربعة وأصبحنا من المعوقين".‏

ابتسمت عائشة رغم اللهاث، والخوف، والرعب البادية على وجه حيّان.‏

النزف لم يطلها هي فحسب، بل أصاب الجميع. جسد بيروت لا ينزف وحده. الشوارع مُدماة، والأبنية تنزف سقوفها وجدرانها.. ضحايا وأبرياء يموتون، وآخرون يعانون من إصاباتهم ونزفهم. . وجروح. . وجراح مفتوحة للريح والسماء‍‏

نُقل الجرحى إلى قبوٍ كان قد جُهزّ للإسعافات السريعة، وحضر الطبيب والممرض وشرعا ينظفان الجروح من الدماء والشظايا الإبرية. وقاما بتطهيرها، وتضميدها، وإعطاء الحُقن المسكنّة، والأدوية، وتمَّ نقل عنصرين من السرية المنتشرة قرب الشاطئ وكانت جروحهما بليغة.‏

استمر القصف المركّز والكثيف أكثر من نصف ساعة.. ردّت قواتنا عليه من منطقتي " البرج" في " الأشرفية" ومن "سن الفيل".‏

تفقدت الجرحى، وقدمتُ تقريراً مفّصلاً إلى " قا. ك"، وكلّفت عائشة بالاشراف الدائم على المشفى الصغير، وقامت بدور ممرضة، وكانت تستمع إلى إرشادات الطبيب وتنفذ تعليماته.‏

استراحة جميلة بعد العاصفة‍! شظايا تركت أمكنتها تخز القلوب !‏

قلب حيّان يتوقد، ويشتعل. تضجّ عائشة نضارة، لا تفارق عيناها حيّان المستلقي فوق سرير أصمّ، لكنه بعد أيام نهض يمشي خطوات وئيدة. يسند كتفه إلى كتفها. وتعودتْ مساء كل يوم، وعوّدته على المشي والحركة في أرض الغرفة، والممر الطويل، المحصور بين الغرف على الجانبين. لم تبخل عائشة بشيء. كانت ترعى كأم الجرحى، وتقوم بمساعدة الممرض على أكمل وجه- اعتمد عليها في تغيير الضماد، وتطهير الجروح، وحقن الإبر، وأُضيفت إلى جانب ذلك مسؤولية تقديم الطعام، والدواء في الأوقات المحددة.‏

تعافى حيّان، عاد إلى العمل في الفرن. رافقته عائشة، وكان أبو سركيس لا يفارقهما، إنه المساعد الأول لهما في كل شيء. لاحظ، مثلي، التبدلات التي طرأت على حياة حيّان.‏

تساءلتُ أكثر من مرة: هل تنتهي هذه العلاقة بين حيّان وعائشة إلى الزواج؟‏

أيتحقق هذا الأمر عندما تشارف خدمة حيّان الإلزامية على الانتهاء؟‏

كنتُ متأكداً أن تسريحه من الخدمة العسكرية، لا يتم الآن، مادمنا في بيروت! وأول يوم نترك فيه هذه المنطقة، ونغادرها، يكون قد مضى على الفترة الاحتياطية ستة أشهر. سألته حينما كنّا نشرب القهوة الصباحية في بيت أبي سركيس، أين المنظار؟‏

- أصبح من موروثنا! تركته عائشة، وأنت تبدلت حياتك جذرياً.‏

وكنت تُجيبنا عندما نسألك : لا بنات بعد سمر!‏

كانت عائشة وأمّ سركيس تتسامران وهما تجلسان على أريكة قرب النافذة. ونحن الثلاثة ( حيّان وأنا، وأبو سركيس) نجلس قرب النافذة الأخرى، ونتحلّق حول صينية القهوة.‏

قال أبو سركيس: عائشة جسد لا تنضب ينابيعه محبّة وروعة. يتفتّح في الصباحات والمساءات، نداوة، ورقّة. تضحك بيروت لزوّارها، وسياحها. تستقبلهم بحفاوة، وتكريم. تودعهم بمحبة، لكنها، وبعد هذه الحرب الشرسة التي طالت، واستطالت أضلاعها، ورؤوسها، تغيّرت ملامحها، وأشجانها، أهي الكرة الأرضية غيرت جهة دورانها!. . لم أعد اعرف مركزها من أطرافها.. دوائر، ودوائر تكبر يقف على خطوطها المسلّحون، والحشاشون، ونحن تذوب ملامحنا من شدة قهرنا، وعذاباتنا. لماذا كل هذا؟ لماذا أرى في بيروت، مدينتي وثناياها المتعطشة للحياة؟‏

ودّع حيّان سمر في بداية الحرب. استقبل عائشة. ترك منظاره السحري تسمّرت عيناه في قامتها الممزقة. ضاعت زرقة البحر التي لوّنت عينيها. حفرت الرمال ندوباً في قدميها.‏

اثنان جريحان في جسديهما، وقلبيهما. الشظايا نفسها، وكانت المحطة الأولى بيروت، محطة للحب والحرب والاغتصاب. اغتُصبت عائشة، وماتت سمر بغير إرادتها!‏

راقب حيّان حديث أبي سركيس. يُعيد إلى ذاكرته أمكنة الاستراحة في حياته القصيرة، تحسس رؤياه بأنامل الوجع، والأمواج تنقله إلى "الكرنتينا" تضعه أمام " جبّالة البيتون"، ونقل الأخشاب، وحُبّه الذي لن يموت، فهو مزروع في قلبه، دائم الاخضرار، لكنه لم يتكلل بالنجاح.‏

هذا الصمت الوجل، المعصور من ذكريات أحبّها. ذكريات تتلبّس روحه وتفكيره. دفعته، حرّضته أن يرفع رأسه، وتتسمّر عيناه في عينيها.. أشار إشارة سريعة. استشعر قصيدة " بكرية":"لو كان جسدها ممزقاً. ثيابها مهترئه. عيناها. ذراعها. . كل شيء فيها، هي بقعة حارة في قلبي، وشهيق دافئ. عرفت الآن، أن القتلة واللصوص مزّقوا جسدها، أصبح نتفاً، كثيابها.."..‏

تنفّس بهدوء. خاطبنا بهدوء : عرفت الآن أيضاً قيمة عائشة الثمينة، لؤلؤة في بحر ملوث. جسد تحنّطه روائح الموتى والجثث. تستره سماء ملوثة..‏

وإذا بحثت عن المذنبين، فأنتم أول العارفين. . لكني سأردّ لها الجميل، هي التي رافقتني طوال هذه المدة.. الوحيدة التي سهرت وقلقت عليّ.حملت المنظار تبحث في فضاء الجسور والبيوت والطرقات الخرساء، تمدّ أبصارها نحو سورية.‏

كانت قلعة صامدة. لن تنسى ذاك اليوم، حينما وصلنا لإنقاذها، وغسلنا جسدها، ونزعنا أوساخ حرب السنتين الماضيتين!‏

الآن عائشة غير التي عرفناها. عائشة جديدة، تحيا في أفئدتنا. تسكن بجانب فؤادي! فلا تستغربا حديثي هذا. إنني أبثّه من أعماقي. قلبي هو الذي يتكلم، ولا أملك غير هذا الكلام.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:29

-19-

كانت الأيام الثمانية ساخنة، تدفقت نيراناً وتدميراً. أيقظت الأموات من قبورهم. جعلت الأحياء يتوهون في دهاليز الأقبية. يتضوّرون جوعاً، ترقّباً تخنقهم الرطوبة، ورائحة الأنفاس اللزجة، الثقيلة، ورائحة البول، وشح الماء وفقدان الطعام. كانوا يختلسون النظرات ويسرقون الهواء الملوث، ثم يعودون إلى الأقبية خائبين.‏

استمعت إلى عائشة وهي تتحدث عن بيروت. قلّبت ألبوماً من صور أحياء "الحمراء- ساحة البرج - الكرنتينا - الفياضيّة - الرملة البيضاء. . برج حمود" هي صور تعكس في مقلتيها حرباً شرسة، سُميت بحرب السنتين، لكنها امتدت، وستمتد أكثر، ولا أحد يعرف متى تنتهي، وكيف!.‏

مشاهد ولوحات. ملامح قزمة أمام الشريط الطويل من الآلام. لا أريد أن أتذكّر حي " الحمراء" أو شارع الحمراء.. هناك كان يسكن ابن المعلم، وفي إحدى البنايات القريبة من الشاطئ. شريط الموت لم يبدأ الآن ولن ينتهي غداً.. لقد كانت الضحية الأولى عشرات من الأطفال الفلسطينيين.. أحُرق الباص ومَنْ فيه.. هذه الشرارة الأولى، وبداية المأساة الكبيرة. . خطّة مدبّرة، المُراد منها شنّ حرب على الفلسطينيين والوطنيين، واقتلاعهم من لبنان كله.. آنذاك لم يأتِ فجأة أو يولد في اليوم نفسه.. كنت أراقب _" القول لعائشة"- "قوات الجبهة اللبنانية"، التي شكلت جيشاً مدّرباً، وكان مَنْ يعرفني من هذه القوات، لا يكترث بأمري، ولم يسأل عني، كوني خادمة أو بنتاً مؤجرة، لكني كنت أسجّل ما أراه. وما تشاهده عيناي. أكتنز في قلبي الجروح، فثقل حملي ووهن جسمي وتعبت وازدادت همومي. وبدأت أوجاعي تمضغ سنوات الشباب، بهتت فتوّتي. أصبحت مطيّة لشهواتهم، ولا أنسى الحقراء والزعران، وصاحب الرذيلة ( ابن المعلم) الذي داس على شبابي، وقيّد طموحاتي وحطم إنسانيتي.‏

الصمت يسود. السماء صامتة. الأرض حزينة، وحيّان يجمّع قواه، يلملم جسده، يتكوّر، كعادته أرخى رأسه بارتياح فوق كفّه، يتأمل عائشة وهي تسترسل تجيش بما في داخلها. تبوح بأسرارها. تفتح جراحاتها. تبكي، ولكني وراء الدموع تختبئ شجاعتها، تحاول أن لا تُعلن عن كل الأشياء، فبعض الأمور لم يحن الوقت المناسب للإعلان عنها!‏

تأمل حيّان مطوّلاً حديث عائشة المنساب، كمياه صافية، رقراقة، تنحدر في أرضية أسمنتية.‏

لم أستطع السكوت. بل قلت لها: أكملي حديثك، لأننا، منذ وجودنا في بيروت الشرقية لم تتجاوز خطواتنا " المركز الصيفي"، ولم نعرف منطقة " الحمراء" إلاّمن بعيد، حينما كنّا نتسوّق من ( ساحة البرج) بعض الحاجيات، تمدّ أبصارنا باتجاه المناطق الخاوية، الملطخة بالحزن. أبنية مرصوفة على مدّ البصر، عالية في شوارعها ذكريات لأناس دافعوا وماتوا وضحّوا بدمائهم عن بيروت. كي تحيا بيروت وتعيش بيروت الموحدة.‏

أجابتني : بعد هروب المعلم وعائلته إلى جزيرة قبرص، لم يترك شيئاً، فحمل معه الأشياء الثمينة، وبقي ابنه يُصفي حساباته معي!‏

كنت وحيدة يامحمود! لكني أجلس الآن بين إخوتي، أتقاسم معهم الحياة. أنام هادئه البال. مرتاحة. كرامتي في وجودكم وحمايتكم لي ودفاعكم عني.‏

وتتابع. . يتعمق الألم في روحها. تبدو معالمه بين غمازتيها وتجاعيد جبينها.. تتابع ولم تنسَ أبداً. فحين يفشل ابن المعلم في مضاجعة صديقته أو صاحبته - لا أعلم - كان يحضر معه أصدقاءه. يبدؤون " يصطهجون" حول مائدة عامرة بالمأكولات، والمشروبات وحشيش ( الكيف). كان يجبرني أن أتعرّى.. لا أريد الآن أن أعودبكم إلى تلك الأيام. .‏

حياتي السابقة ملوثة، مملوءة بالخطايا والذنوب!!.‏

قلت : ليس الذنب ذنبك. أنت مقهورة منذ ولاتك. ومضى شهران على هروبك. . الحاضر غير الماضي. فكرّي جيداً في الأيام القادمة! أمن المعقول بعد كل هذه الحكايات والروايات أن يُقِدم حيّان على أمرما!؟ هكذا كان هذا السؤال يمرّ هامساً في رأسي و" يوشوشني" كلما تعمّقت عائشة في حديثها، وتعددت حكاياتها. وقصصها.‏

لملمت نفسها. أبدلت جلستها، كأنها تقف خلف ساتر رملي. رفعت شعرها عن جبينها. استيقظت الافكار في رأسها من جديد. استرسلت قائلة: الحمراء، منطقة خاوية. جثّة هامدة. أكلتها النيران. نهشتها القذائف ومزّقت جسدها. أسكتت كل نبضة في قلبها، و( أسواقها). تقطّعت يداها، ورجلاها. بقي رأسها يدور فوق شوارعها، وأزقتها. . هياكل باقية للرياح. فلا زجاج في واجهات بيوتها ومحلاتها أو أثاث. أدراجها ملوثة بالدماء، وقطع اللحم اللبشري اليابس، المقدّد، وشعر الرؤوس المسلوخ. محاجر عيون. أصابع، وثياب فقدت ألوانها. انطمست! جدران تحولت إلى مداخن، وأكوام وركامات من الرمال والحجارة. تتكدّس في مداخل الأبنية والشوراع. ولا أحد يقوى بعد ذلك اليوم على رؤيتها، أو المرور بجانبها! مَنْ يذهب للبحر يغير طريقه، ينكفئ عنها، لكنه ينحني احتراماً لضحاياها.‏

دارت المعارك فيها... فوق سطوحها، وفي شوارعها. قتال بالسلاح الأبيض، ودماء حمراء، قانية. أمواج تلفّ المساءات الصاخبة بالموت.‏

وحيدة، اختبأت في إحدى الزوايا، انتظر ( موتاً في سبيل الموت). أنتظر شظية أو قذيفة تخلصني من لحظات الحياة الآسنة. . تحيد القذائف عني. تصعد نحو السماء، وتنحني فوق البحر.. تستقر في قاعه:‏

أصبحتُ كالمجنونة يلفّني الغبار ورائحة البارود والقنص.. يحمل جسدي أنفاس المخمورين. لم أصدّق أنني سأبقى على قيد الحياة. فإذا كانت القذائف تمزّق الجدران والسطوح الأسمنتية الجبّارة، فكيف يقدر هذا الجسد العاري على المواجهة، والمقاومة؟.‏

أصبحت كجسر الموت، يدوس فوقه العابرون من " سن الفيل" إلى " الأشرفية". أشكّل نقطة عبور لكل تقاطع الطرقات والجسور، وتحت هذا الجسد الذي مازال يقاوم، يجري نهر بيروت.‏

كانت المفاجأة صباحاً. احترام الجميع لوقف إطلاق النار. عادت الحركة إلى الشوارع والأسواق. بقايا أدخنة ووجوه أبنية مجدورة ببقع وخدوش، وأحياناً طاقات، وفوهات كبيرة تتسع لدخول سيارة كبيرة. . أنصاف جدران، مازالت الثياب معلقة عليها.‏

وجّه حيّان كلامه إلى عائشة، رافقتْ ذلك ابتسامة، ونظرة فاحصة إلى وجهها الذي لم تفارقه أشعة الشمس، الوافدة من كوّة في الجدار الشرقي.‏

- ما رأيك أن يكون الصباح حلماً من أحلامنا، نمتلكه وحدنا؟ أترغبين بمرافقتي إلى الشاطئ؟ أو إلى الروشة؟، وهناك، وفي هذا الصباح، تتفقدين جروحك!لا أريد منك أن تتحدثي عن الماضي كما تحدثتِ الآن! أريد أن أقف إلى جانبك، وأن يكون كتفي مسنداً لرأسك. أو نجلس بجانب بعضنا، فوق تلك الصخرة المشهورة التي صمدت زمناً مديداً، وطوال هذه السنوات.‏

أنتِ صخرة تخدّشت قشرتها الخارجية، لكن في داخلك معادن ثمينة. أماكن مازالت تتسع للحرائق، والنيران والحب. أريد أن أُدفّئ قلبي بحرارة قلبك!‏

أُدمي قلبي أصابني وجع. . أوجاعي تقترب من آلامك. أنا مثلك شربت كأساً مرّة. فقدت حبيبتي، لكنها لم تفقد بكارتها مثلك، بل قُطعت رجلها.‏

كانت تستمع، وتصغي بشوق إلى كلماته. لم تتعود طوال حياتها أن تستمع إلى مثل هذه العبارات والجمل الحلوة. شعرتْ بأن لها قيمة. عادت إليها إنسانيتها، وبدأت تكبر في عينيه.‏

قال لها قبل أن يودعها : الاغتصاب جرح من الصعب إلتئامه بهذه السرعة. الثوب. الممزق يمكن تبديله، بثوب آخر. الجسد المُنهك من التعب. الثديان المعصوران أصابهما الجفاف، لكن الحياة القادمة تعُطيهما شيئاً من ربيعها، وأحلامها.‏

أخذ تورّد الوجنتين يحتل بقعتين فوق خدّيها. والأهداب المغسولة بدموع الحزن، تتندّى من جديد!‏

وضع يدها بيده. تشابكت أصابعهما، وقلباهما. اتجها نحو البحر، لكنهما لن يمرّا بمنطقة الحمراء، إلاَّ أثناء العودة!‏

-20-‏

عند الصباح خرج الناس من الأقبية باتجاه البحر. تركوا معاناتهم، وهمومهم تحت الأرض. فمنذ أسبوعين، وهم قابعون، ينتظرون الموت، ويتأملون حياة أكثر اطمئناناً.‏

وعلى مدى النظر تُزيّن الشاطئ ألوان من البهجة والحبور، وروائح اللحم المشوي، والمشروبات، وغيرها من المأكولات التي حُرِم منها الناس. خرجت الآن إلى سطح الأرض.‏

تأبّط حيّان ذراعها. وبخطوات وئيده بدأا! يترنحان فوق رصيف الميناء. تارة يحدّقان ببعضهما وتارة يحدّقان بالبحر الواسع، والأمواج القادمة من منتصفه.‏

كانت الشمس ترتفع. السماء صافية، خالية من الغيوم. طغت أصوات الأمواج على رقّة حديثهما. سرق حيّان قُبلة خفيفة طبعها فوق خدّها. تسمّرت صورة سمر أمامه. اكتشف أسراره الجديدة. أما عائشة في تلك اللحظة، فكانت تجري مقارنة مع نفسها. مقارنة بين بشاعة ابن المعلم، وبين قبلة حيّان الحنون وتقول : لقد نسيت وداع أُميّ. فمنذ سنوات، عندما كنت طفلة، لا يتجاوز عمري ست سنوات، ودعتها، أما الآن فأنا صبيّة شابه. مرّ عقدان لم أشاهد فيهما أُمّي. أبي هو الذي يزورني كل سنة مرة، ولولا حاجته، لما رأيته!.‏

همس في أذنها! انظري! ما أجمل البحر! هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها ويراني. . أراه يضحك مع الناس. يداعب الأطفال، ويجمع الكرات يقدّمها هدايا إليهم.‏

والناس يلتفون فوق شاطئه، يفترشون الرمال، الأطفال يلعبون، ويتراكضون!‏

في هذه الأثناء، طلب " قا. ك" الحضور إلى مكتبه. كانت جلسة طويلة مع خريطة بيروت.‏

- سنحمّل يارقيب محمود على هذا المصور المواقع الجديدة التي احتلتها القوات المناوئة. أنت تعرف أن قواتنا أصبحت مجمّعه في منطقة " الدورة" و"برج حمود". والقصف يأتينا من "الضبيّة" و "جونية" و" المجلس الحربي". أغلقوا بعض مقرّاتهم ومكاتبهم، وفتحوا لهم مقرّات أخرى أكثر سرّية. قسموا قواتهم إلى قوات متنقلة غير ثابتة في مكان محدّد وقوات ثابتة.‏

- سيدي " قا.ك": أُحيطت قواتنا بزنار من القوى المناوئة من جميع الجهات ألا يكفينا حصاراً، ومحاصرة، ومعاناة! عرفنا جميع أنواع القذائف والأسلحة، عدا الطيران الحربي.‏

جلست وراء المرسم. بدأت أحمّل المواقع الدفاعية والهجومية على مصوّر مقياسه كبير " 1/5000" وكان أوضح من المصور السابق.‏

- أرسل برقية عاجلة إلى السرايا والفصائل. أعلمها بأن توقف منح الإجازات و " المبيت" خارج الكتيبة. . فهذه هدنة مؤقتة، ويمكن أن لا تدوم أكثر من أسبوع.‏

همستُ. " تأخرا " حيّان وعائشة". الخوف في مثل هذه الحالة يكون أكثر مما في أحيّان من حالات الحرب والقتال. يمكن أن يختطفهما مسلّحون. اشعر بأن شيئاً ما سيحدث لا تحمد عقباه"‏

حملت المنظار. صعدت إلى سطح البناية. شعرت أنني أبحث عن إبرة في الرمال.‏

تجمعات بشرية، مزهوة بالألوان، ومياه البحر تُضفي على الشاطئ والرمال والناس جمالاً. أمواج خفيفة. . شريط من الرغوة يغطي الأقسام السفلى للصخور.‏



الشمس دافئة. الشوارع مزدحمة. تعجّ الأسواق بالخضار والفواكة، والباعة.‏

وجهت المنظار. أدرته جيداً نحو برج حمود، علّي أرى أبا سركيس. رفعتُ صوتي قليلاً، وأنا أتفقّد السطح. أحدّق في الزوايا، والمداخن. تساءلت: عمّ يبحث أبو سركيس الآن؟ عن أي شيء يفتش؟‏

كان يتوقع قدوم عائشة وحيّان ليشربا معه القهوة الصباحية. . أعتقد أنك تحلم، لأنك لا تعلم ماذا يجري، وما يدور بين قلبين غمرهما الفرح. أصبح حيّان يا أبا سركيس من روّاد البحر. أسكرته رائحة عائشة الطيبة، ورائحة الأمواج، وجسدها العائد من جديد إلى المواجهة. كما كنت أتصوّر وأتخيّل في مرآة ذاكرتي. حدثني بعد عودته من النزهة وعائشة تستمع دون أن تتدخل، لكني طلبت منها بإلحاح أن تقول شيئاً ما!.‏

- لقد تأخرنا عليك يا محمود. الزمن مع عائشة يتلاشى بسرعة. قلبها فتح أشرعته للهواء والرذاذ، فاندس جسدي مغموراً بدفئها. أصبحت كزورق يفرد أجنحته. يدفع الماء من الجانبين رأسها يتقدم جسدها نحو الشمس والدفء. وماذا أقول لك؟ لا استطع أن أعبّر عما يجول، ويتجوّل في أفكاري وقلبي وروحي. لقد فتح القلبان نافذتي أقفاصهما، وبدأت زغاليل روحينا تدغدغ شعورنا وإنسانيتنا.‏

عائشة إنسانة لا تعرف الشرّ. الحياة أثكلت قلبها، وأدمت جسدها أيدي الأشرار.‏

انشرحت عائشة، تطاحنت همسات دافئة، ونبضات في داخلها. لم تستطع الانتظار!‏

- في طريق العودة مررت أنا وحيّان في شارع طويل. تذكرت الحوادث التي لوعتني طوال حرب السنتين. أمكنة كانت مسكونة بالحب. أصبحت ملجأ للموت، ومدفناً للأموات. إنها خرائب وعفن وجثث وركامات. لكن مشوار اليوم فتح جروحي. أعاد الثقة إليَّ. عادت الأحلام إلى قدسيتها ومشروعيتها، وهذا من حقي ومن حق كل الناس أن يفكروا ويحلموا كما يريدون. يفكرون بالحب والحياة والهدوء والأهل والأحباب... لم أتوقع أن يقف حيّان إلى جانبي هذا الموقف. تأكدت من نواياه الصادقة. تساءلت كثيراً: هل نسي حبيبته؟..‏

بقيتْ واجمة. تعُيد إلى ذاكرتها زمن الخير والسعادة. لم تنسَ أن تقول: آلامي تنزف من جسدي!.‏

أثنيتُ على موقفها. شجعتها قائلاً: سنبقى نحمي جسدك حتى تلتئم جراحك. لقد وصل صوتك إلى كل المنابر، ولكن !..‏

- ولكن ماذا يا محمود؟‏

الغروب يمسح وجه الأرض والجنود والشوارع المعتمة. تخرج من النوافذ أضواء خفيفة كنّا نشعر أنه مع هبوط الليل تبدأ الحرب، هكذا تعودنا، فالشوارع خالية صامته كأنها تنطق بحدوث مفاجأة ما !. البحر وحيد غادره الزوّار والأصداقاء. ودّعهم بثورة من الأمواج الهائجة، وخَلَت شواطئه من البواخر والزوارق.‏

توقفنا عن الحديث حينما دخل أبو شاهين. عيناه تتجولان في وجوهنا، كأنه يحمل جعبة من الكلام القاسي. يريد أن يبوح به، لكنه تراجع وصمت مثلنا، ثم دخل إلى غرفته. انزوى في سريره. لم نعرف بعدئذ كيف قضى ليلته!.‏

استغلّت عائشة خروجه، جهّزت إبريقاً من الشاي، فكان طيّب المذاق، مع صفاء الليل وهدوئه.. وامتدت أحاديثنا حتى الصباح.‏

كنت أراقب حيّان، وهو متمدّد فوق سريره، يشعل سيجاره بانشراح، وعائشة في الجهة المقابلة. . قلبان وليدان يتقاربان، ويعيدان همساتهما، وضوءهما. . تتجاذبهما أفكار جميلة تنبسط أمامهما، وتتقاطع خالية من الغبش والعتمة.‏

- الصمتُ يجرف أفكارنا. كل واحد منّا يطلق العنان لرأسه وخياله. تتوزع أحلامنا وأفكارنا. نرصد في دواخلنا وقلوبنا، النهار القادم. نتساءل معاً. يتساءل كل واحد : " هل يعود القتال؟ هل تعود القذائف".‏

- أقول لكم، إنها هدنة مؤقتة. . اعتدنا عليها. قواتنا تُعيد تجهيز نفسها.‏

" قواتهم" أعلنت التعبئة العامة، والتطوع الإلزامي لكل قادر على حمل السلاح من الذكور والإناث.‏

بقي حيّان صامتاً. تلفّه غيمة، كذلك عائشة. صمت ينذر بالأخطار. لكننا لم ندرِ بعد ذلك كيف غطتنا ستائر النوم، ونحن نعشق صباحاً دون نيران، وإطلاق قذائف!‏

- 21-‏

كانت الجولة الأخيرة إلى بيت خالي، قبل أن يعود القتال، ويمتد. أثناء ذلك تعرّفت إلى عائلات سورية تعيش في بيروت منذ عقود، وتتوطن بـ "الأشرفية" و " الزيتون".‏

وفي أمسية هادئة جميلة تطلعت من النافذة في هذه المنطقة المرتفعة نحو جسر الموت. يبتعد بصري. يتوزع فوق أوتوستراد النهر والدورة مروراً ببرج حمود. كل شيء عادي.‏

يزدحم الصالون في بيت خالي بالرجال والنساء. بعضهم يعرف أهلي، لكني أراهم وأجالسهم لأول مرة. أحاديث حميمية، ودافئة عن الحياة، والناس والأهل والعمل والحرب، والأجور والغلاء والترف والهجرة والموت و.. و...‏

دارت نقاشات. . تقاطعت الأحاديث بين هذا وذاك. أصغيت وبانتباه.‏

رغبتُ في الاستماع إلى كل الأشياء التي أوافقهم عليها والتي أعارضهم فيها... حمّلني " أبو منصور" ذكرياته عن فلسطين في أربعينات هذا القرن، حينما كان يرافق والدي للعمل عند الخواجة " مردخاي" في حيفا، وكيف كان يتقاضى أجرته مقابل إطفائه ضوء المصباح في يوم السبت.... أشار إليَّ: انظر. هذه بنايتي. عمرّتها بتعبي. أما الآن يا بني فالأحوال تبدّلت. إننا ندفع " الخوّات" كل شهر ولا نستطيع المعارضة.نحن بين نارين: بيوتنا ملكنا، وأعمالنا هنا في بيروت، ولا نقدر تركها أو بيعها بأسعار رخيصة. .. ( خوّات) ندفعها للمسلّحين. إمّا أن ندفع أو نشاركهم في القتال. فالدفع أهون بألف مرة من حمل السلاح ضد أبناء شعبنا من سوريين أو لبنانيين.‏

كانت يد خالي ترتجف، فتهتز صينية القهوة، وحين يتوجه بالحديث إليّ تغرق عيناه بالدموع. المرة الأولى التي ألتقيه، وأتعرف أبناءه. هو الخال الوحيد من بين خمسة أخوال بقي في بيروت، حتى إن أبناءه هاجروا إلى أمريكا واستراليا.‏

بعد عودتي إلى برج حمود قمتُ بتلخيص ما جرى من أحاديث، فانتعش حيّان، كأن شيئاً ما يشده، ولديه الرغبة الجامحة في معرفة المزيد.‏

قاطعني :- قرُبى وطيدة بين السوريين واللبنانيين، صلات تاريخية وحضارية، ودموية عميقة. شعب واحد في بلدين_‏

تابعت: توجد نزعة عند البعض، نزعة إقليمية. هؤلاء متنكرون لأصولهم.‏

هذا الإكراه، وهذه النزعة يغذيان الروح الانفصالية من خلال رؤية " المتفوق"‏

الحديث يكاد لا ينتهي، حينما أرغب في تغييره، أوجه الأسئلة إلى حيّان، كأني صحفي بارع.. وتأتي الأجوبة ناقصة. وكلما تعمّقت بالأسئلة، تآكلت أجوبته!.‏

فيصل إلى حالة من العجز، فيبدأ هو يتحايل ويبدل الحديث، ويبث في قلبي ذكريات الأيام الموجعة. ." " ألا تذكر يامحمود الأيام الأربعة. أيام الخوف والموت البطيء التي أمضيناها قبل رحيلنا إلى " الدورة" و"برج حمود". كنّا نتمنى أن نجد رغيفاً من الخبز أو حفنة من البرغل. الأتذكر الشاحنة الكبيرة التي وقفت في ظل "بناية مسعود" محمّلة بالخضار والفراريج والفواكه. بقيت طوال أربعة أيام صامدة، إلى أن تعفّن كل ما فيها وصارت تخرج روائح كريهة، كرائحة الموت".‏

- " تنذكر وماتنعاد". حلاوة هذه الأيام في إعادة صياغتها كذكريات... ذكريات تحمل جمالية خاصة. تحمل الحب و التآخي والخوف والمرارة. ويمكن أن تحصل معنا في المستقبل حوادث أكثر مرارة وسخونة، سنحكيها لأولادنا وأصدقائنا. ولاندري اليوم، هل نظلّ من الأحياء؟ وإذا عشنا سنكتب مذاكرتنا التي تحكي عن هذه الذكريات!‏

حين انبلج الصباح وانكشفت أسرار النهار ومدّت الشمس أذرعها نحو النافذة ضحك حيّان، قال متفائلاً:‏

- " الليل هادئ، ويبشّر النهار أيضاً بالهدوء ". فتح النافذة، مدّ عنقه. داعب الهواء وجهه وشعره. شاهد الناس. السيارات والحرّاس. تلمّس المنظار.‏

يريد أن يُلقي بصره على البيوت الساكنة. . على البيت القريب من مقرّنا. أراد أن يجدد زياراته لصديقه الحميم، بعد أن تفقّده بمنظاره. تمتم: " صحن الدار خالٍ من الناس سوى نبتات خضر، تُضفي جوّاً ربيعياً.. ها.. ها" وضحك، وهو يتراجع إلى الخلف، يحني جسده ويتربع فوق سريره.‏

اسكت يا أخي! هل تحاكي روحك؟ خلصني من المنظار. لكنه لم يجب.وأعاد الكرّة مرة أخرى. محاولاً دفع رأسه نحو الخارج، يدوّره كالرشاش في كل الاتجاهات، عدا البحر بقي معلقاً من قاعه في رأسه، عدا مشوار الأمس الذي مازال يندّي صفحتي جبينه، ووجنتيه.‏

- لا تزد وجعي. أبقيتُ كوّة مضيئة، ساهرة خلف روحي، تمسّد جسدي برطوبتها ونداوتها وحبّها.‏

- هل تقصد عائشة ؟‏

- نعم !!. . حين مرّرت أناملها فوق ذراعي وعنقي، شعرت بانسحاب الظلام من نفسي وروحي. تحوّلت البقعة المعتمة إلى بقعة مضيئة. ألا ترى الضوء يغالب أشعة الشمس.‏

- تبالغ !وهذه أحلام مازالت تعشش في زوايا جسدك المتآكل، وروحك التي روضتها الأيام العصيبة. فقدك حبيبتك سمر، ونزوحك عن " الكرنتينا" أفقداك أجزاء هامة من عقلك وذاكرتك!‏

ونحن في هذا الجدل الحامي.دخل حاجب " قا.ك". كان يتحدث ويشرق بلعابه، وبالكلمات. آثار النوم وبقايا قذى يتجمع على أطراف عينيه. أشار بيده إليَّ فهمت فوراً. حملت نفسي، قادتني قدماي إلى مكتب " قا.ك" وبقي الحاجب يوشوش لحيّان بكلام صبياني.‏

" قا. ك" ومساعده " رئيس الأركان" يجلسان حول طاولة حافلة بالصحون، وأشكال متنوعة من الطعام الساخن والبارد. يتصاعد بخار الشاي. تتسابق الأيدي والأنفاس تلهث، مترافقة مع طقطقة أسنانهما.‏

أدّيت التحية. دعاني " قا.ك" إلى تناول طعام الإفطار معه. المرة الوحيدة التي يدعوني فيها، وبهذه القوة، وهذه الحماسة. كانت عندي رغبة في الأكل، لكني تراجعت خطوة نحو الخلف. انتظرت الأوامر، والتعليمات الجديدة!!..‏

عند عودتي، كان حيّان يرّتب حديثاً جديداً له صلة بحديثه السابق، كأنه يتلو مقامة!‏

- الأنوثة تتوجس في داخلي مشاعر غريبة. عائشة من الداخل جسد غضّ يبرق شعاعاً، فعندما رفعت تنورتها، وغطّست ساقيها في ماء البحر، كنتُ ألتهب وأتوهج. ودون شعور غطست أصابعي في حقل الألغام. تلمست ثدييها الناضجين. كان شعرها يغطي وجهها، بينما عيناي تتسمّران باليم والأفق. تودعان السفن المغادرة. أَرْختْ عنقها. ألقته فوق فخذي، كلما ارتفعت حرارة الشمس. ارتفعت حرارة جسدينا في سلّم الروح.‏

- معهم حقّ يا محمود!‏

- مَنْ هم ؟‏

- المغتصبون الذين رووا ظمأهم من هذا الجسد!‏

شهوتك تدنّس نفسك. هل تخون الخبز والملح! أنت الذي حرستها طوال هذه المدة، وبصقت في وجه أبي شاهين، حين علمت أنه ضاجعها مرتين في الليلة الأولى.وأنت الذي كنت تصطاد المسلّحين الذين شوّهوها. وكنت تردد :" فداك يا عائشة! هذا مسلّح يسجن فوق جسر الموت. كم رشاشاً أسكتّ؟ وكم ملاّلة أخرست؟" وأنت تحمل بندقيتك خلفها، تحميها من القناصة. الآن تعود للغوص في الأحلام. إني أرى ما يخالف ذلك تماماً. إنك تبدأ تحرث أرضها، وتغير ملامح تضاريسها، بأصابعك، وفمك. شفتاك تمسحان لعابك، وشهوتك!.‏

- اشرب القهوة يا محمود. سُكّرها خفيف كما ترغب!‏

حمل منظاره. صوّبه نحو منزل أبي سركيس، ثم وضعه في رأسه. كانت فسحة الدار تتألق، وتتوهج بالزريعة الخضراء. وكانت عائشة، وأم سركيس، وأبو سركيس، يتحلقون حول طاولة صغيرة، يرشفون القهوة. ترتدي عائشة قميصاً شفافاً، يتضوّر فوق جسمها نضوجاً. ينسدل شعرها فوق كتفيها، يرتخي براحة تامة.‏

تصوّب عينيها نحونا. هي تعرف أن حيّان يحمل المنظار، وفي هذه اللحظة يفتش عنها، يساوره الطمع في لقاء آخر، اكثر حرارة من اللقاء الأول.‏

امتدت أيام الهدنة. وكان الأسبوع يقترب من نهايته. أخذت العناصر حريتها في الحركة، والتحرك. تكفي إشارة واحدة حتى تتوقف أفخم سيارة، لتنقل "عبد الله أو عمر" وسواهم إلى ساحة البرج، أو أي منطقة أخرى.‏

وقفتُ إلى جانب عبد الله عند الحاجز، قبل بداية الجسر الذي يؤدي إلى نهر بيروت. جلست مكانه على الكرسي، وهو يحمل بندقية " أخمص طيّ" ويتزنّر بنطاق جلدي، تصطف حوله مخازن الذخيرة، والقنابل اليدوية. ينتفخ صدره من مخازن أخرى مدروزة بشكل أكثر فنّية، وحضارية.‏

كان عبد الله يؤشر للسيارات بالمرور باتجاه " الدورة" وعنصر آخر يؤشر للسيارات بالاتجاه المعاكس يقرأ قراءة جيدة حتى إنه كان يتهجّى الحروف الانكليزية أو الفرنسية.‏

كنتُ أتفحّص المارة، وعبد الله يقلّب البطاقات الشخصية. يدقق بالأسماء وسمعته يردد " جون" ثم يقول. تفضّل مستر.‏

- قراءتك ممتازة يا عبد الله!‏

- لم أنجح في الكفاءة. تركت المدرسة، وعملت في الزراعة، والآن ها أنذا معك فوق هذا الجسر.‏

السيارات تخفف من سرعاتها عند وصولها إلى أوّل الحاجز، وعبد الله يليح بيده لها كي تمّر. يطمئن أكثر إذا كان السائق امرأة، فيبدأ يدردش معها، وتخنقه رائحة دخان سيجارتها. وأذا كانت السيدة أنيقة وجميلة، يفتتن بها. يحتار ماذا يقول لها" من فضلك أطفئي سيجارتك!". تداعبه بغمازتها، وتقدم له قطعة من البسكويت. لكنه كان يرفض تناول أي شيء. فيقطّب جبينه، ويشدّ على بندقيته يتحسس المخازن، والجعبة الصدرية، بعدئذ يسمح لها بالتحرك.‏

- فتّش يا عبد الله السيارات تفتيشاً جيدا، ألا تعلم أنه في حالات الهدنة ووقف إطلاق النار، تستعيد القوات المناوئة نواقصها، وتستعد أكثر ( تخزين الأسلحة والذخائر). ونحن كذلك ألا تتذكر، حين بدأ القتال ولم ينتهِ، كيف تمَّ إحضار الأسلحة والذخائر والمؤونة، كذلك لاتهمل واجبك. هذا النداء الحار الذي جئنا من اجله، ومازلنا نقاتل من أجله بإرادة واحدة، وموقف موحد. وهذا هو خيارنا الوطني..‏

كأن هذه الكلمات أيقظته، ونبهته أكثر، فبدأ يدقق في البطاقات، ويفتش السيارة، غير مكترث برتل السيارات الطويل. يقلّب المقاعد. يبحث بين دفتي أبوابها.‏

ويرفع الغطاء الخلفي. أنه عنصر حريص كل الحرص، ليس كغيره " ابتسامة واحدة، صفراوية تسيّل لعابه، فيتلهّى معها، ويترنم مع غنجها " يطقّ حنك معها" بكلام فارغ وغير مسؤول ".... أنت أصيل وابن اصيل.‏

تحفّزت مشاعره، ونفر الدم إلى رأسه. أجابني بمعرفة تامة وكاملة عما يدافع، وفي سبيل مَنْ هو موجود في هذه المنطقة. [ أريد يا محمود حماية عائشة. ألم تسمِّ أنت بيروت بـ " عائشة"]‏

سألني :- هل سمعت بعودة المساعد الاحتياط؟‏

- نعم سمعت عنه حكايات وألواناً من الأحاديث والقصص الغريبة، وعن عذابه طوال شهرين في أقبية المجلس الحربي " وهل تتذكر يا عبد الله حينما رحلنا من تعاونية موظفي الدولة" وتوجهنا إلى هذا المكان " برج حمود" انضم إلينا عدد من الدبابات والعناصر وأصحاب الاختصاصات العسكرية. من أجل مساعدتنا، ولكن كميناً مسلّحاً كان يرابط قبل الجسور، فأحرق " ملاّلتنا". استطاع المساعد أن يقفز منها، وهي تشتعل. أما المجندان الآخران، والمرافقان له فاحترقا، وانصهرا مع الحديد والنيران، وتفحما هيكلان بشريان. أخطأ المساعد، فبدلاً من أن يتوجه إلى برج حمود، توّجه نحو المجلس الحربي، أصبح في منطقة خطرة جداً، وأسر. وبعد أيام تمّ نقل الملاّلة المحروقة إلى مقرّنا الحالي، بواسطة " ب ـ ت ـ ر" ومازال اللحم والشعر والأصابع تلتصق بالحديد.. العظام مطحونة، ومهروسة، سوداء. جمجمتان متفحمتان. إنهما شهيدان آخران. نبهتُ عبد الله لإيقاف سيارة مسرعة تهبط فوق الجسر باتجاه الدورة. فأشار لها بسلاحه للتوقف. . تمّهلت، وتدرجت، ثم توقفت. تبدو علامات الخوف على وجه السائق. كأنه يتحايل، ويتحفّز للإقلاع بسرعة جنونية. أدركت أنه إذ فعل ذلك سأطلق النار على عجلات السيارة !يبدو إن ملاحظتي لم تكن صائبة أو أن السائق غيّر نواياه، حينما أدرك أن وجود أكثر من اثنين، وأسلحتهما جاهزة لإطلاق الرصاص، توقف !‏

طلب عبد الله البطاقات الشخصية للركاب الخمسة، واتجهت أنا إلى السائق أطلب منه البطاقة الشخصية، وميكانيك السيارة. تأكّد عبد الله أن الأسماء الخمسة تتشابه، ودقق فيها أكثر من مرة، وفتش السيارة بتمهّل.‏

امتدَّ شريط السيارات نحو مئة متر. ولم يجد بعد هذه الجهود إلاّ مسدساً حربياً، فأنزل صاحبه، وسمح للسيارة بالانطلاق، ثم رافق هذا المسلّح إلى مكتب " قا.ك".‏

اقترب عبد الله مني متحمساً يطلب إكمال قصة أبي رأفت. اضطررت أمام إلحاحه أن أُتمم له ما تبقى منها" أصبح أبو رأفت أسيراً. سمعت اسمه من إذاعة " صوت الكتائب" في بيروت الشرقية.. عندما أُدخل معصوب العينين إلى سجن تحت سطح الأرض بعشرين درجة. أرغموه على خلع ملابسه الخارجية وظلّ بملابسه الداخلية. خلّصوه من الهوية العسكرية، والساعة، وراتبه، وادخلوه إلى غرفة التعذيب، وانهالوا عليه بالضرب، واستخدموا الأسلاك الكهربائية، والدولاب، وطريقة الكرسي. علقوا قدميه في السقف. أربع ساعات كوجبة أولى. . وفي الليل أوقفوه على حافة تشرف على بئر عميقة، ولا تتسع هذه الحافة إلاّ لوضع قدميه. وطوال الليل كانت نقاط المياه الساخنة مرة والباردة مرة أخرى تنقط على رأسه. وثبتوا يديه خلف ظهره. شهران في زنزانة رطبة، كريهة، لم يرَ الشمس إلاَّ قبُيل الإفراج عنه بثلاثة أيام، لكنه صمد ولم يبح لهم بأية معلومات عسكرية".‏

حين أبدل عبد الله نوبة الحراسة، وتوجهت إلى الغرفة أفتش عن حيّان، لكني لم أعثر عليه، فوضعت المنظار، ربطته جيداً إلى رأسي. دورته نحو منزل أبي سركيس.‏

طال الانتظار. عيناي تبحثان في الشوارع والبيوت عنه. تخترقان زجاج النوافذ. تمران على الزوايا والسطوح. وحينما فقدت الأمل بعودته. تكوّرتُ فوق السرير وبدأت أفكاري تحبل بحكايا، وأقاصيص مُختلقة من الذاكرة. أتصوّر أحياناً دروباً معشوشبة، وفي أحيان أخرى يأكل جوانبها القحط والبارود. تتابعت الصور. التصقت بجدران الذاكرة، كأنني أزور متحفاً " جثث في سن الفيل- الإجازة. الشاطئ المتآكل. الروائح الكريهة. القذائف. دمشق الهادئة. الجسور. القنّاصة الرشاشات." أبو ماركو" وو....."‏

فتحت النافذة. تدفق الهواء. اندفعت صورة من الذاكرة، ترافقت مع رؤية حيّان خلف رشاش " 14.5مم". يحبّ حيّان أن يتعرّف أسلحة جديدة من غير اختصاصه، ويتجول على نقاط الحماية والحراسة حول شركة التبريد، حيث يوجد "قا.ك".‏

في هذه الأثناء كانت الشمس تنحدر. تغسل أشعتها الأفق الحزين. تودع المياه الراكدة. تجرّ أذيالها إلى عالم آخر، يمكن أن يكون أكثر أماناً، واطمئناناً!‏

قلت مع نفسي. " سنبقى على هذه الحالة، وماذا تكون النتيجة؟". هل أستطيع أن أرفع عالياً شارة الوداع لبيروت، أم أُحمل في كفن؟ في الحالتين سأودعها، لكن قلبي لن ينساها، فهي تسكن تحت ظلاله. . هناك وبين فلقتيه تتفيأ، وتكبو وتنام. .‏

وحيداً أبحث عن حيّان وعائشة. يكاد النهار ينتهي، ويمتد الغروب على امتداد البصر، تهجم العتمة على الغرفة، ولن تتوقف! ازداد الهمس الجوّاني. والحيرة كأنني أفقد شيئاً ثميناً من جسمي، ومن حياتي. أيعقل أنهما تجاوزا خط التماس إلى بيروت الغربية؟ لا اعتقد أنهما يتركانني وحيداً، أجالس الوحدة والهواجس، والهموم! هل يكون حيّان قلب المواقف رأساً على عقب، وقلب الصورة الجميلة، ودغدغ عواطفها، وبثَّ فيها الشجاعة، للالتحاق بالمنطقة الغربية، حيث الأمان أكثر، والحياة أيسر.‏

أسئلة شاردة تواردت إلى ذهني. تحركت هواجسي، وتطايرت أحلامي. أُصبت بالاضطراب النفسي والغليان. تمنيتُ أن أنزوي وحيداً في أحد أركان الغرفة، وعدم رؤية الشمس والقمر ووجهي، كأن حيّان يشدني من كتفي ويدفعني أمامه. فتناولت المرآة من محفظتي وكسرتها!. تمنيت ألاَّ يعكر هذه الحالة أحد من ثقيلي الدم. شعرت أنني في قمة توهجي قبيل حلول الليل. أما الآن فانطمست وتلاشت الصور والأحلام من خيالي الذي تحوّل إلى نتفٍ متقطعة، منثورة، وموزعة في الجهات الأربع.‏

كنتُ أسمع صدى طلقات نارية، يحملها الليل ويوزعها فوق الجسور.‏

يُعيدني هذا الصدى إلى الأيام الغابرة، رغم أننا تعودنا عليها...‏

عودة القتال إلى ما كان عليه أصبحت أكثر الاحتمالات. عوّدنا جسر الموت على "الاستمتاع" بصوره المفجعة، وآلامه، والجثث المتلاحمة معه، والسيارات المعطوبة المقطعة التي ما تزال تتمسك بها أيدٍ دون سواعد.‏

يسير الليل، ويمشي يسحبه القمر معه. خطوات وئيدة بلا أنوار، سوى بصيص يتنقّل مسايراً الشاطئ، كأنه يمر أمامي، فيبعث الأمل مشوباً بالسواد. يعود الحلم قاسياً، صلباً يلثم جدران قلبي، وقاع ذاكرتي.‏

أنهض ثم أجلس، وهكذا. لم يبقَ من الضجيج شيء. عند انتصاف الليل، بدأت الدقائق تنحدر نحو النهار. قطعتُ أمل عودتهما، فأغلقت باب الغرفة، وتركت النافذة مشرِّعة دفتيها، كي لا أنسى أنني وحيد. بقيت أقدام الحراس وهمساتهم، وبصيص سجائرهم، ورائحتها، تدقّ مجتمعة على طبلتي أُذنيَّ. ودعت كل الأشياء، الجميلة منها، والقبيحة، ونمت وحيداً، قلقاً، أحلم بشمس الصباح. وبهواء خالٍ من رائحة الموت، والقذائف. وببحر تنحني أمواجه نحو السفن الراسية، المحملة بالسطحين والمؤونة والمهاجرين، وأسواق تجلجل فضاءاتها بالغبار، وأصوات البائعين، وبرائحة الخضار والسمك والفواكه الطازجة، والأرصفة تزدحم بالناس، والعشاق.‏



أحلم وأهجس، متوجاً بالأمل. أسحب أضواء النجوم نحوي. أسوِّر سماء الجسور، وبرج حمود بها. أبني جدران بيت المستقبل لبنة لبنة، ونجمة نجمة..‏

لم يَعُد رأسي، ولم تعد غرفتي. .. لم تَعْد الأشياء الفارغة تتسع أكثر، فالحمل يزداد ثقله، ويتراخى الجسد، ويضعف. تتقطع حبال القلب، وتطفأ الشمعة الأولى، تطفأ. ولن نشعلها إلاَّ في العام القادم وبهذا التاريخ وهذا اليوم:‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:32

القسم الثالث

-1-‏

جسر الموت جسد بلا روح. جسد من الأسمنت المسلّح. أنهكته الدبابات والمجنزرات والأقدام العارية. مشت بين جنباته جموع بشرية في الذهاب والإياب من سن الفيل إلى بقية أجزاء بيروت الشرقية.... وجوه تائهة، غضبى، حزينة، ثكلى، فقدْت قلوبها، لاتعرف الفرح، ولا الهدوء والاستقرار، وأين ترسو وأين تكون المحطات الأخيرة‍.‏

كل مَنْ يساوره الشجن أو تهمس في روحه رغبة أو يشتهي أن يخطو على هذا الجسر يتلو الصلوات. يتضرّع بخشوع إلى السماء. يمكن أن يكون الحظ حليفه، وتنحرف عنه قنصة أو قذيفة.. يتنفس الصعداء عند نهاية الجسر، وما يكاد يقطعه حتى يبدأ يلعن الحياة، والحرب، والقتال، والتدمير. يلعن أسرار المدينة، وقدسية حضارتها، وعراقتها التي دفعته، قذفته من أحضان بيته غير الآمن....‏

هذا هو " الجسر الواطي" الجسر الذي يربط بين البيروتين الشرقية والغربية. سمي بـ " جسر الموت" لأن آلاف الأرواح زهَقَت فوقه. تحوّل إلى مدفن في عراء الموت!‏

صورة تتشبث بروحي، تضغط كآلة كلما حملت المنظار، ووجهته إليه أبحث عن أشيائي المفقودة.. أبحث عن حيّان الذي لا أستطيع القيام بأي عمل دونه..‏

كنت أبحر في نهر عريض، أقلّب التداعيات، فينهرس بعضها، ويتقطع بعضها، وتخرج أجزاء ملونة، أو محروقة، تلّف أذيالها حول عنقي، تربط لساني، تقيّد أفكاري، تحاصرها، تمنعها من المشي في أوردتي.‏

الآن توقفتُ هنيهة، حسمت موقفي، بعد أن بدا حيّان، وظهر يحمل فَرَحاً. سألته بتودد وشوق ومحبة : لماذا تأخرت حتى هذا الوقت؟ ألا تعلم أن "قا.ك" كاد أن يوجه برقية إلى جميع النقاط في برج حمود وسن الفيل، وبيروت الغربية‍‍‏

ليلتان كاملتان تغيب عنّا. ألا نستحق منك خبراً تكتبه في ورقة صغيرة أو تكلف أحد العناصر بإبلاغنا‍! سألت أبا سركيس عنك. لم يجب أبداً!‍ كنت متأكداً - الحاسة السادسة همست بالجواب- انه أوصلك، أنت وعائشة إلى بوابة المتحف. أمّنَ عليكما من الأخطار. وضعكما في سيارة صديقه، وغبتما ليلتين كانتا حالكتي الظلمة.‏

أنت الآن ليس كما عرفتك. أشعر أنك تغيرت، وتبدلت أفكارك وأحلامك. وجهك يقطر من الوجنتين. تساؤلات مخزونة في داخلك. .. تكلم يا حيّان ‍ أين عائشة؟ لماذا لم تَعَد معك؟ أين هي الآن؟ هل كرهتنا.‏

ولماذا التجأت إلى بيروت الغربية؟ لماذا اختارتها في هذه اللحظات الحاسمة من حياتها؟.‏

"كشف عن أسنانه، بابتسامة لوّنت ثغره بالألم، والتعب والخوف !"‏

- لاأريد أن أنقل آلامها إليك. يكفيك كل هذه الشهور، وأنت تحميها وتحافظ عليها كأنها جزء منك. . الآن! قررت عائشة أن تدافع عن نفسها، وتتحمل المسؤولية كاملة. حملت المنظار معها. ستنضم إلى إحدى فصائل المقاومة المسلّحة في بيروت الغربية. لقد قسّمت جسدها وروحها. تريد أن تجتاز جسر الموت ثانية. وكذلك عشاقها أرادوا العبور وراءها. رغبات مجنونة تلحّ عليهم لملاحقتها أينما ذهبت. بيروت الغربية أكثر أماناً من بيروت الشرقية. هناك القوى الوطنية تسند ظهرها، وتحميها وعدد من القطع العسكرية التابعة لقواتنا.تدافع عن هذا القسم من بيروت، تتوزع في الشوارع والأحياء، والمخيمات. . هكذا أرادت وهكذا كانت رغبتها. أن تنزع من قلبها ومن جسدها الأوجاع التي أدمتها، وأن تصلي دائماً وأبداً، ناظرة دائماً إلى الأمام دون أية التفاتة إلى خلفها.‏

وعندما وصلنا إلى الجسر، ولامست أقدامنا أرضه، تمسّكت عائشة بحافته المصدّعة، وضعت المنظار إلى رأسها. ثبتته جيداً، وبدأت تمسح ببصرها المناطق كافة. مرت على جميع الدوائر والأقواس الباردة والحامية، ابتداء من برج حمود، والدورة. بقيت دقائق تدوّر منظارها، بينما كان أبو سركيس يلّح عليها للصعود إلى السيارة. " أسرعي يا عائشة، القناصة فوقنا، وهاهم يصوبون بنادقهم إلينا، ولم يمهلونا أبداً. انهم يراقبون السيارة بدقة، ويتابعونها).‏

تحركت سيارة تحمل رشاشاً من عيار"500"، يدور باتجاهنا. كانت عائشة تحيا، وتعيش وتنبض في داخلها لحظات الوداع المرّ بعدما صبرت وقاست، وعانت من التشرد والفواجع التي تكلّست في قلبها... رغم ذلك لم تفارقها الابتسامة.‏

- تجمدّت الكلمات في حلقي - قلت: لماذا تخاطر، وتغامر بهذا المشوار؟...‏

- الآن يصعب وداعها. لوبقيت معي لما تنفست غباراً ورماداً، ولما كانت هذه الشهقات من التعجب والاستفسار ولما تحفزت أنت يا محمود وأهدرت الوقت في البحث عنَّا!‏

تمنيت أن تكون معنا، ترافقنا، وأن ترى من قرب جسر الموت، هذا الجسر " اللعين". إنه يسكر بالدماء. لكنتَ لا تقترب من مائدته العامرة بالجثث، والعظام وأقسام من رؤوس تتبعثر فوقه أو تتدثر في الحفر. والسيارات ترتاح، تنام معطوبة، تتكئ على جوانبها، أو تستلقي على ظهرها، تطلّ من نوافذها رؤوس أطفال وشباب وأمّهات. . عيون نفدت مياهها، وقطرات دماء غيّرت ألوانها الدموع. كل شيء أسود...وما أدهشني ذاك الرأس المطحون. أعتقد أن صاحبه حاول أن يدفع رأسه للخروج، ولكن باب السيارة أطبق عليه فظلَّ محصوراً، سقطت ( وجبة ) أسنانه السفلى على الأرض، وقطعة من لسانه مازالت طرية تمتصها الديدان والحشرات.‏

ماذا أقول عن جسر الموت! أعجز عن الوصف، وتعجز أحدث الكاميرات أن تقترب منه، وتأخذ صوراً، كشواهد للتاريخ.‏

جسر الموت مصيدة، كل مَنْ حاول السير فوقه، أو الاقتراب منه اصطيد بقذيفة أو قنصة. هل تذكر تلك الأيام، ومرارتها حينما اضطررنا إلى اللجوء لفصيلة الكيمياء القريبة منه؟.‏

- طال بنا السهر، وحيّان يزداد شوقاً للحديث عن هذا المشوار، وعن جسرٍ تحدث عنه العالم. رحم الله منظارك يا حيّان! لقد فقدت قطعة من حياتك، فكيف تستطيع الآن العيش بدونه؟ والبحث عن أنوار البيوت، ووجوه النساء، وعن أجسادهنَّ الراقصة أو النائمة فوق أسرّة حُبلى بالليل والغنج والهمس والمطاردة!‏

سألته : - متى تعود عروس البحر؟ متى تمشي فوق رمال الساحل، وتختال عند الغروب ضاحكة للماء والموج والشمس؟ تتفرّس بالوجوه الغريبة، بعد أن تعوّدت وجوهنا، وارتاحت لها، وإلى أحاديثنا وقصصنا، وحكاياتنا، وسهراتنا، وخلواتنا، وضحكنا، وقهوة أبي سركيس. رغم بشاعة الأحداث التي طُبعت بخاتم الازدراء، وغُمست بالدماء البريئة، رغم تصدّعه وتفككه وألمه، وحفره وتهشمّه وتكسّره وتآكل. وانهيار جوانبه، ظلَّ جسر الموت نقطه اتصال وتلاقٍ بين الفرح والحزن، وبين الموت والحياة.‏

فوق جسر الموت عبرت شاحنات كتيبتنا، القادمة من جسر " الباشا"، سن الفيل، فجسر الموت، وصولاً إلى نهر بيروت، أوالسيارات العائدة ستمر فوقه أرادت أو لم ترد ، رغبت أو لم ترغب: يشرف على نهر بيروت الجاف ذي الذقن الملساء.‏

كل الأشياء مكروهة. كل الأشياء تنتهي فوق هذا الجسر. يتواصل القنص، وتصوّب الرشاشات والمدافع والراجمات سبطاناتها إليه، ورغم ذلك كان بصيص الأمل يتقافز، وينطُّ. كان بصري، يصعد ويتسلق الدرب الناهضة، كأنها تتسلق السماء. يشرئب عنقي حاملاً رأساً ثقيلاً، دائخاً.. إلى هناك أُحدّق بعينيَّ.. تتسمر عيناي في فوهات كبيرة تشكيلية. تتابع عائشة الرصد، هناك، وفوق سطح بناية عالية، بجوار خط التماس. وأولى النقاط التي تمدّ بصرها نحوها مواقعنا، وتدقق في مرابض أسلحتنا، وأمكنة منا ماتنا تهزها أوجاع الدروب. تتسلق قلبها أحلام الأيام القادمة.‏

كنّا نسستمع إليها ونصغي إلى شفافية حديثها. تتوهج أفئدتنا. تضمر شهواتنا وتضمحل رغباتنا حين تجلس بينا. نحترم صمودها وصبرها.‏

عائشة جسد ممزّق واهن. لم تبرحها الآلام المتجمعة في ظهرها وفخذيها وذراعيها ووجهها، آلام لا تزول بهذه السرعة، ستظل آثار الرضوض زرقاء، وبقع الدماء المحبوسة تحت جلدها مكللة بالسواد إلى فترة قد تطول.‏

آلام تتداخل وتتشابك مع المتاريس وسواتر الأكياس في الشوارع والأزقة.‏

أقسمتْ ألاَّ تعود إلى الحي القديم إلاَّ بعد أن يتوحد الجسد والروح ويندمجا في كتلة واحدة. إلاَّ بعد أن تُعيد أنفاس البحر إلى قلبها الحياة، وتنظف الشواطئ والأقبية، ويخرج التلاميذ إلى مدارسهم دون خوف، ويعود الصيّادون يحملون شباكهم وصنانيرهم، ويعودون إلى أكواخ القش وإلى زوارقهم، وتُصفر البواخر حاملة الأغذية بدلاً من الذخائر والأسلحة.‏

قال حيّان: فقدتُ كل شيء. فقدت غرفتي وحبيبتي، وخسرت عائشة. اعتقدت أني سأرافقها حتى نهاية المشوار! رفضت، ورفضت. إنها عنيدة، واليوم أُصيبت بمرض، ولاتستطيع المقاومة كما كانت من قبل.‏

- لا نريد أن نهدر الوقت، لأن الغيوم تتكاثف في سماء بيروت.‏

- ألا تلاحظ أن عناصرنا يعبئون الرمال في أكياس، ويرتبونها فوق بعضها.‏

- تتكرر الأخبار والصور، ولا شيء جديد.‏

- تعزيزات جديدة في مقارّ القوى المناوئة.‏

- وسفن وزوارق ترسو في الموانئ.‏

- ستكون آخر المعارك، وبعدها الموت أو الرحيل!‏

- عناوين استفزازية، وكتّاب يشوهون الواقع، والإذاعات " الغربية" تبثّ عبر نشرات الأخبار سموماً، وأحابيل من الدجل والتهديد.‏

صدرت تعليمات جديدة بإيقاف الإجازات ومنع مغادرة المواقع مهما كانت الأسباب. وتؤكد هذه البرقية المستعجلة على ذلك " إلى جميع السرايا والفصائل. كونوا على أهبة الاستعداد. ويمنع مغادرة المكان".‏

- تبدو الاستعدادات في هذه الليلة كبيرة!‏

- انتبه. اسمع جيداً. ألا تلاحظ مثلي أن الأجواء مكهربة.‏

- أصوات طرقات صناديق خشبية، وتنزيل أسلحة وذخائر من الشاحنات.‏

- اعتقد أنها البدايات، وسنتلقى في الساعات القادمة تعليمات جديدة، وربما ستكون ساعات الحسم النهائي.‏

- تعقّدت الأمور، وآخر الأنباء. " بوارج فرنسية، وقوات المارينز تحطّ رحالها قرب البحر. وساطات جديدة. ومتابعات حثيثة من الفاتيكان. دور جديد (للسوفييت)، واقتراحات ومبادرات".‏

- المسألة أكثر تعقيداً من ذلك.‏

- طبعاً! عودة بيروت إلى أمّها الحقيقية، وعائشة إلى والديها أمر كثير التعقيد.‏

لن يكون بهذه السهولة، نزع فتيل الاقتتال، وتشكيل حكومة ائتلاف وطني، وإلغاء الطائفية!‏

- دخلت في السياسة !‏

- في الطعام سياسة! ألا تعلم!‏

- نحن نقول شيئاً والصحف تكتب وتحلل، وتخطط وتتم المشاورات وراء الكواليس.‏

- أتركنا يا محمود. "قا.ك" أرسل يطلب حضورك لأمر هام.‏

- تطابقت تصوراتي، "بريد عاجل وسرّي للغاية من " قا.ل" تماماً مع احتمال عودة القتال.‏

فككت برقية مرمزّة بالشيفرة. أعلمت " قا.ك" بها، ثم سلمته نصها مكتوباً، وطلب مني إحضار الخرائط في حالتي الدفاع والهجوم...‏

انهمك ( رئيس الأركان) في تحديد المواقع الدفاعية. كنت أراقب انشغاله، والعرق يتصبّب منه، وهو يُنقّل ويحرك ( مسطرة القائد). مستخدماً أقلاماً حمراء وزرقاء في تعيين أنواع الأسلحة الممكن استخدامها في قتال الشوارع، وراسماً الخنادق للمشاة والـ " م ر د"، ومواقع الدبابات ومرابض المدفعية. ...‏

تنفّس قائلاً: ينبغي أن توزع عناصرنا وقواتنا توزيعاً جديداً وبسرعة، وأن نعزّز مواقعنا الأمامية باتجاه الجسور والأشرفية والدورة. فهناك خطة عدوانية تُحاك ضدنا. نحن هنا. كغيمة صغيرة في سماء واسعة! علينا أن نحسب ألف حساب، وأن نأخذ الاحتياطات اللازمة وخصوصاً إمكان محاصرتنا من ثلاث جهات، عدا البحر فهو يحمينا ويسند ظهرنا. .والجسور فهي حامية لصدورنا. . وخلفنا ( الدورة )، ويمكن أن يكون تسلل القوى المناوئة منها. لذلك سنرسل فوراً جماعة الهندسة كي يلغموا منطقة الجسور والدورة، وبعض المنافذ الأخرى.‏

أكدّ " قا.ك" أن القوات المناوئة عُززت بخبراء إسرائيليين. إن الأفق المنظور، وكل الحسابات تدل أو تؤشر إلى أن احتمالات عودة القتال واردة وفي القريب العاجل.‏

صباح أسود. تمزقه القذائف. تنهمر غزيرة من كل صوب. تتراقص الأمواج على موسيقا جنائزية. ترتجّ الأبنية وتنهار السطوح.‏

فتحت الأرض أفواهها النتنة. ابتسمت الطرقات المتآكلة. الأشعة الخريفية تمرر أصابعها، وتندسّ بين بيوت بيروت الشرقية. وحين تلتقي عينيَّ وترافق الأدخنة المحزّمة بألسنة اللهب، يتلاشى نور الشمس. كأنني ألقي آخر نظرة على هذا الموقع. وهذا ما كنت أتمنّاه!‏

كنت أتمنى أن نترك هذه الجسور إلى جهة ما. فالسماء تُنزل علينا مطراً وحليّاً، وموتاً. يقذف البحر أوساخه وتتعالى أمواج المدّ. تغوز الأبنية في جوف الأرض وتبتلعها النيران. تدوي الانفجارات. تدوّخ الفضاء. تفرغ خزانات المحروقات أجوافها من البنزين والمازوت والكيروسين. سيارات محروقة. أكوام اللحم البشري والعظام الممصوصة. تتدحرج الرؤوس وتقطع كالبطيخ..‏

لن تباغتنا القذائف. دخلنا العام الثاني. تعودنا دوّيها، وكذالك الرطوبة المالحة. والنوم في الأقبية والزوايا. كنّا نتصور أن القذائف لن تصلها. وبينما تختلط الأشياء أمامنا وتدور معارك ضروس حامية الوطيس، كان حيّان متفائلاً، يخفف عنّا هذه الأعباء. يقول: يضيء الانفراج ساعات ما بعد الظهيرة. يصدق أحياناً، وأحياناً أخرى تخيب نظرته وحدسه ويضمر تفاؤله. وفي هذا اليوم بالذات كان صامتاً يتحسّس رأسه، معتقداً أن المنظار يتلبس رأسه وعينيه، ورغم ذلك تشرق ابتسامته. تطلّ علينا كأنها وردة. تترافق مع ومضات القذائف، وأزيز الرصاص. يغلق النافذة. يلتجئ إلى الزاوية لمتابعة مصادر النيران.‏

لا خوف على مصادر نيراننا وطواقم الدبابات والهاونات، إنها محمّية حماية جيدة في حفر وتحيطها جدران من أكياس التراب والرمل. علمتنا التجربة القاسية كيفية حماية مواقعنا وعناصرنا، والتقليل قدر الإمكان من عدد الإصابات.‏

مضى اليوم الأول والثاني. . والثالث. تتابعت الأيام والقتال يشتد، وفي أحيان يخفت صوته، فيسمح بالتنقل لفترات قصيرة والتحدث مع أبي سركيس الذي وإن كان لم يشترك اشتراكاً مباشراً في القتال فهو يراقب التطورات على الأرض، ويسمع الأخبار.يملك إمكانات وقدرات كبيرة على الربط بين السياسة والحرب ويخلص إلى نتائج صحيحة. يساعدنا في مراقبة تحركات القوى المناوئة. يبدي رأيه بثقة أمامنا، وبحضور "قا.ك" وبعض الضباط، لكنه يتشاءم أحياناً، ممتعضاً من هول الخسائر، وأشكال التدمير المرئية وغير المرئية. ويتساءل مقارناً بين ما يحدث في أواخر هذا القرن، وبين ما حدث في الحرب العالمية الثانية.‏

بين لحظات التفاؤل، ولحظات التشاؤم تمر سريعاً أمام نافذة ذاكرته عائشة، تدّق عليها طرقات خفيفة.‏

يبتسم أبو سركيس يمطّ رقبته، يمدّها من النافذة. يدلّي رأسه. يحني قامته. يتراجع بهدوء. تظل عيناه خلف الزجاج. يوزع بصره. ينثره وروداً على "الدورة" و" برج حمود". يتفاءل أكثر حينما تصل إليه أغنيةٌ أوصرخة أو صوت. وسرعان ما يلبي النداء، فيحمل الماء والطعام والذخائر وأدوات الإسعاف السريع. يعتقد أن شيئاً ما يحدث. وكثيراً ما يزدحم ذهنه بالأحداث فلا يعرف ماذا يفعل! يرتبك. تضغط انقباضات بقوة على عضلة قلبه. يتحرك لسانه بين فكّين واهنين. تتأوه بجانبه أم سركيس وتئنّ. لا تتجاسر أو تقوى مثل زوجها على فتح النافذة، واتخاذ القرارات السريعة.‏

أخذت مكانها في غرفة صغيرة تحت سلّم البيت. استقرت فيها. تتسلى مع القطط الهاربة من أتون الحرب. تلتجئ إلى حضنها، ومثلها مثل القطط يعرفن مصادر الأخطار والأماكن الآمنة. قطتان أليفتان، واحدة سوداء والثانية بيضاء تنتقلان بين رجليها، وترافقانها أينما تحركت. ومنذ أن تركت عائشة " برج حمود" غابت القطتان، ولم يعثر أبو سركيس وزوجه على أثر لهما. فتّشا كل الأماكن والزوايا. بحثا عنهما في الأبنية المجاورة فلم يجداهما... استفسرا تساءلا! لم يعرفا ماذا حلَّ بهما! ولا أحد يعلم حتى ذلك التاريخ ما مصيرهما!‏

نترقّب انفراجاً قريباً وعاجلاً، أو حدثاً ومفاجأة، وبرقية جديدة تضع حدّاً لآلامنا وأوجاعنا وانتظارنا. مضى عام، وعام آخر يمتد إلى اللانهاية. عناصرنا موزعة ومشتتة في مناطق متباعدة عن بعضها. عام بشهوره الاثني عشر، فتلت رؤوسنا. أشبعنا من الروائح النتنة. تقاذفتنا أمواج القلق والليل والسهر. تعرّفنا أوجاعها وبقع النزف في جسدها. تجرعنا الصعاب. تمترسنا خلف أكمات مرابض الأسلحة المختلفة. ازددنا خبرة في ترميز تقارير القتال، وفك رموز الشيفرة والرد على البرقيات الصادرة من رتب أعلى!‏

رسمنا بيروت فوق أغشية قلوبنا. نرى صورتها كل يوم على شاشات أرواحنا وأغلفة دواخلنا. حفظنا مواقعها وشوارعها وأسواقها. عيّنا إحداثياتها وحالات الدفاع والهجوم. عرفناها في الحرب وفي السلم. توطدت صداقاتنا مع أبنائها الطيبين والصادقين، ومع المدافعين عنها، وعن سعادة أهلها.‏

كانت الرياح تدفع أمامها أملاً مطوياً في رسالة ومحفوظاً في مغلف صغير. الرحيل يجوب أفكارنا وأحلامنا و يخترق تصوراتنا. لا مجال إلاَّ الرحيل، هكذا اتفقت جميع الأطراف المتنازعة!‏

كل هذه الأحداث والأمور والقضايا الصغيرة والكبيرة والمتاعب والقلق، تتجمع في أحشاء عائشة، وهي لم تغب عنها لحظة واحدة. تستمر في رصدها، وتفكر في كل الاحتمالات التي ستحدث وفي كل الجزئيات المتناثرة في حياة المدينة الملتهبة. تفكر في تأمين الخبز للناس والحليب للأطفال. تتصور أن المستقبل المقتول الضائع غير معروف الآن ولم تصدق أية تنبؤات عنه.‏

في ليلة هادئة، غيومها رقيقة بيضاء، كان القمر في مواجهتنا يمدّ ضوءه إلينا. عيناه تتسمران في وجوهنا، كأنه يأخذ صوراً للذكرى.‏

تنهّد حيّان! ارتفعت أنفاسه وهبطت خامدة، وتعبة.‏

- اتركني يا محمود، سأضع وجهي في فضاء النافذة بمواجهة البدر. إنها تقف بين وجهين. يحاصرها وجهان وأربع عيون. تزنّرها ابتسامتان بأحزمة الشوق. اتركيني أتمعّن وأدقق، فالذكريات حُبلى بالغثيان. روحي سائبة، حائرة، تائهة في رمال الضياع. البعد مرض خطير موجع ومؤلم. أكاد أفقد جزءاً حميماً من ذكرياتي. اشعر أن جمرة عاطفتي محاصرة بالدموع. تنطفئ وتتحول إلى رماد.‏

- أنظر في صفحة القمر وتضاريسه ألا ترى أهداب عائشة وعينيها الوامضتين. . وغمازاتاها تعصران قطرات الندى.‏

يضحك و يضحك. يعبّ من لفافته أنفاساً من الترقب واشتهاء الرحيل. يدير رأسه، يحركه، يوجه بصره إلى الدفء. هناك وراء خط التماس، ويتوجّس الأمل المصرور في زوايا أحشائه التي لم تطلها بعد وتصلها خيوط المرارة والنزيف. إنه يختزن في أقبية جوّانية قريبة من القلب أموراً ليس الوقت يصلح للبوح بها! ربما يتركها للرحيل، ربما يدفنها، ويلبس الثياب السوداء، علّها تغفر له، وتشفق عليه، وتعود كما كانت قريبة من القلب.‏

أسئلة تطرح نفسها عليّ: هل يسبقنا إلى جسر الموت؟ هل يقتحم بوابة المتحف؟ هل يتدحرج ويسقط في نهر بيروت ويختصر المسافة والزمن؟ ماذا يخبئ؟ هذا ما ظلّ عالقاً في ذهني ولم أجد الجواب الوافي والشافي عليه!‏

منذ الوداع الأخير أخذ جسمه ينوس ويذوي، غابت عن وجنتيه المتوردتين الحُمرة والضوء. بشرته صفراء. عيناه ذابلتان. حزينتان. ازداد استهلاكه للسجائر، وقلّ نومه. قلق وقلق. تورّم الأفكار. أحلام أجهضتها المتاعب، وتراجعت مقهورة فوجدت أرواحها ممزقة، مشردة، بلا مأوى !‏

ما رأيك بالرحيل؟‏

ها قد مضى على خدمتك الإلزامية أكثر من ثلاث سنوات. أمر التسريح محفوظ في الذاتية. فهمت من صمته المتواصل أنه يفضّل البقاء قرب عائشة. وأيقنت أنه وفي أقرب فرصة، وفيما إذا صدر أمر التسريح سينتقل إلى بيروت الغربية، ويفتش عنها.‏

هذه الليلة، ليلة مجنونة. كتبنا فيها صفحات من التأملات، بين القمر والغيم والجسر والرحيل وعائشة. ليلة يصعب رسم وجهها أو تخطيطه على الورق - من أجل بقائها محفوظة في قلوبنا وخوفاً من طلقة طائشة تمزقها - أردت أن أسجّل مذكراتي في دفتر خاص وأتركه في هذا المكان. ربما جاءت، كانت متشوقة للقراءة، فتتذكر أوجاعنا، وإذا تذكرت ستبدأ تمسد فخذيها ونهديها وجوانب الهشيم حول قلبها. ستترك شعرها يسبح في الفضاء وبعضه يعبث فوق وجهها ويتطاير. آنذاك أكون قد تركت شيئاً لبيروت بعيداً عن المهووسين والمخمورين.‏

بدأ وجه القمر يحترق، ووهج الحرائق يتصاعد ألسنة على سلالم الموت نحو السماء. غابت، بل ضاعت البقع المضيئة والعدسات التي تعكس ابتسامة الليل. يخبو الأمل المسروق من بقايا فرحنا.‏

وفي آخر نشرة إخبارية لإذاعة " مونتي كارلو". " نترككم مع مراسلنا في بيروت"‏

أغلق حيّان النافذة. بدأ المراسل يتلو التقرير. يتهدّج صوته كأنه يبكي، وبيروت تموت وتتمزق إلى أشلاء.‏

- المعارك حاسمة يا حيّان، وهذا يُضعف الأمل بالعودة أو حتى الحلم.‏

- استمع يا محمود. . تابع المذيع " بيروت تودع بيروت. هيروشيما تنتحر. تتساقط أبنيتها. الجثث تملأ الشوارع. لم يفسح المجال أمام سيارات الإسعاف والصليب الأحمر لنقل المصابين والجرحى إلى المشافي. الموتى والجرحى بالمئات. ولا توجد حتى هذا الوقت إحصائيات دقيقة. جسر الموت تنتحر القذائف فوقه وتقسمه إلى نصفين. واحد لبيروت الشرقية، وواحد لبيروت الغربية. منطقة " الدورة" تلتهب"‏

تلتزم قواتنا وتحترم وقف إطلاق النار. القوى المناوئة تستنجد بتل أبيب. ستستبدل بالقوات السورية قوات عربية.‏

سمع حيّان الخبر فقفز إلى النافذة المفتوحة. حدّق في وجه القمر، جثّة تغادر السماء إلى أي مكان آخر!‏

- لقد سقط القمر قرب بيروت، أراه ينتحر فوق البحر. لا أميزّ الآن بين الأرض والسماء، كأنهما يلتحمان في جسد واحد كعروسين. انظر الصواريخ الضاحكة والقذائف المزعورة مشحونة بـ " الفرح" وأصوات المدفعية من عيار "155 مم" قادمة من " الضبيّة".‏

- أصبحت خبيراً عسكرياً!‏

استمر المذيع في تلاوة التقرير عن ليلة حمقاء. استمر في تغطية الأحداث حتى آخر ساعة، كأنه في جنازة، يُلقي كلمة أهل الفقيد. يقف على حافة القبر.... وتابع "تجري الآن مشاورات بين الأطراف المتقاتلة، لوقف إطلاق النار. تستعد قوات فرنسية وأمريكية للتحرك إلى الشاطئ. ونقل رعاياها من العاصمة اللبنانية. قداسة البابا يوحنا يصلّي ويتضرّع إلى الله بصلوات لإنقاذ بيروت". ويختم المذيع تقريره قائلاً:‏

" يبقى الأمل عند الجميع بإيقاف الاقتتال، وأن مشاورات كثيفة ومسؤولة ستجري في صباح الغد بين ممثلين عن الحكومة السورية والحكومة اللبنانية".‏

أغلق حيّان المذياع. ساد صمت متكسّر يجثو على قدميه. استمرت طلقات تائهة تقلق أجواء المدينة الجريحة. ظلَّ جسد عائشة يتفتت. يذوب لحمها مع عظامها، ويحترق. ولافرق في مثل هذه الحالة بين الجسد والروح. الاثنان يندمجان في تابوت واحد. تستمر النيران وبقايا ألسنة تلتهم شعرها. لكن عينيها بقيتا تراقبان آخر محطات الليلة الحزينة.‏

جففت الحرائق دموعها.ارتفعت الأبخرة مرّة نحو السماء. وحين مسحت غيمة وجه القمر وغسلته، ظهرت بعض البقع، وبقيت آلاف الصور مهشمة. تتجمع بعض الغيوم من جديد حول القمر تدفن عينيه تحت أجنحتها، ثم تتقطع وتحملها الرياح وتوزعها...‏

آخر غيمة ظللت وجه القمر بفيئها حملت أخباراً مصورة، توجهت إلى الناس قائلة " تعالوا إلى بيروت. جسدها يتلظى. تعالوا أحملوا منظارها. فتشوا بأنفسكم عن المآسي. قدموا خبز الحياة إلى أطفالنا كيلا يموتوا، وتدفن هذه البذور، لأنها وبعد هذا التاريخ ستحبل بمواليد مشوهين. أما رحمها فقد جفّ. أصبح العقم الأبدي عصيّاً على الطب. ولم تَعُد الأدوية تنفع. وإذا أصبحت عائشة عقيمة فستموت بيروت ولا تزهر إلى الأبد، ويموت من بقي فيها، ولن يبقى سوى الفقراء الذين لا يملكون ثمن قوتهم اليومي".‏

تساءل حيّان :- هل نفقد عائشة طوال العمر ولن نراها أبداً؟‏

- لا : خيالك يجنح إلى التشاؤم. ستحيا من جديد!.‏

- إنها تبكي منذ زمن. وليست هذه الليلة الوحيدة المخصصة للعويل.‏

أتعتقد هكذا، دون إيجاد المبررات الصحيحة والتصورات الواقعية!‏

- لا جديد في موقفي ولن أُغيره ما دامت الأحوال لم تتغير!‏

- منذ قدومنا كانت السماء ملبّدة بالغيوم. وهذه الليلة كبقية الأيام والليالي الماضية.‏

- صحيح هذا الكلام. الآلام نفسها وإن كانت الآن أشدّ قليلاً.‏

- القمر يحترق ومازال، والغيوم تغطي وجه البحر.‏

- لاتنطبق أقوالنا أو تتوافق مع مجريات الأحداث.‏

- دائماً نقول ونتنبأ بالموت، ولكننا نفاجأ بأنها مازالت صابرة. تغسل وجهها كالعادة وتسرح شعرها، وتحمل المنظار علّها ترانا. فهي كالأم الحنون تفتش عن أطفالها وناسها وبشرها دائماً وأبداً. ففي كل مرة وبعد انتهاء المعارك كانت تحمل أوزار الموت. تحيا من جديد. يتضامن معها أناس يحبون الحياة. قلوبهم معها على الرغم من أن الكثيرين من هؤلاء لا يعرفونها، لكنهم يسمعون عنها. ويتناقلون قصص بطولاتها، وعندما يعرفون تهون أوجاعهم، وتخف مرارتهم. إنهم يرونها صورة في وجه القمر وعلى صفحة مياه البحر وفوق صخور الشواطئ وبين الجرود والوهاد والأودية وفي الفوهات السوداء وفوق جسر الموت وأمام بوابة المتحف، ومن خلال هذه الأشلاء الموزعة على الدروب والجثث الموزعة، الملقاة قربنا.‏

وعائشة تفكر أيضاً بالجميع. صاحية. فقدت أعضاءها، لكن روحها بقيت تتجسد في أهلها ومحبيها، وتكسوهم أملاً، تطمئنهم، بأن يوم الخلاص يقترب مهما كانت السنوات عجافاً وتعرفهم، بان أصعب المواقف هي الموازنة بين الحياة والموت وأي خلل بين الطرفين يعدُّ هروباً وموتاً.‏

متاهات. . قذائف تخفت أصواتها. يسقط القمر وراء جبال الصمت البعيدة، وربما يسقط في البحر ليزيل عن وجهه وجسمه غبار الحرائق ودخانها. ربما ستزور في الصباح أشعة الشمس أبعد المناطق بدءاً من بيروت الشرقية حتى أقاصي الشمال والجنوب.‏

ربما يخرج الناس من الملاجئ، وتعجّ بهم الشوارع والمقاهي والأسواق. ربما تستيقظ عائشة وتنهض من فراشها تتفقد جسدها العاري. وتقفّز بصرها في الأبنية تتابع بقايا أدخنة، ونيران.‏

ربما، هذا ما حصل، وتجمّع الجنود حول موائد الإفطار، يهمسون ويأكلون، يتجاذبون الأحاديث والطرائف. ينقلون جمرة الليلة الماضية. يتدفؤون حولها ولم يصدّقوا أن ليلة تفور وتغلي، وينصهر فيها الناس والسيارات والحجارة وكل شيء مرَّ دون خسائر تُذكر!‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:33

- 3 - الرحيل

ليس من عادة الحاجب أن يدخل إلى غرفتنا دون أن ينبهنا، وكعادته أيضاً يحب المفاجآت وإحداث اضطرابات جسمية ونفسية لدى المتلقي.‏

وحينما يكون الحاجب في وضعه الطبيعي. أحتاج إلى فترة ولو كانت قصيرة نسبياً إلى الإصغاء إليه كي أستطيع تفسير ما يقول. تتصل كلماته بعضها ببعض مخلوطة ومعجونة، وكيف ولو حُمِّل خبراً لإيصاله إلينا بسرعة.‏

- أليس ما تريد إبلاغنا به أمراً هاماً!‏

- نعم !‏

- أهي مفاجأة ما!‏

التفت حيّان. أدار وجهه نحو الباب. قال: أتخسر شيئاً إذا تنحنحت! أو (رفست) بقدمك على آخر درجة من درجات السلّم.‏

سألته : - ماذا جرى؟ هل من جديد؟ وانتظرت الجواب بفارغ الصبر! بينما كان الحاجب يُهدّئ أنفاسه ويُعيدها إلى حالتها الطبيعية.‏

ناولني مغلفاً صغيراً مفتوحاً، وفي الزاوية اليمنى كُتب عبارة ( عاجل جداً)، ويُفتح بالذات من قبل المرسل إليه.‏

تقارب وجهي ووجه حيّان قرأنا الأمر بشغف وسرعة. الحاجب يصفق ويبتسم مطمئناً أرواحنا وتساؤلاتنا. شربنا الشاي معاً " آخر كأس من الشاي في برج حمود".‏

النافذة المفتوحة نحو الجهة الغربية هي الطاقة التي يستشف حيّان منها الأمل ويقرأ تأملاته الشفوية. يفتح قلبه للفضاء. يسرح بصره. يطير ويحلّق نحو خط التماس علّه يتنسَّم أخباراً جديدة قادمة من هناك. واسطته الوحيدة الهواء، يدفعه براحة يده، يحمّله رسالة شفوية وقُبلة طرية.‏

تناول المغلف وقف باستعداد وقرأ بصمت. أخذ حاجباه يتقاربان، ثم يتباعدان. رفع رأسه قائلاً: جهّزوا أنفسكم للرحيل إلى " سن الفيل". وسيتم إبلاغنا عن آخر التطورات في الساعة الرابعة والنصف من صباح هذا اليوم. ومازالت الأمور قيد البحث والتداول، لكن هاجس الرحيل يُثقل رؤوسنا ويضغط بقوة أكبر من حبّ البقاء هنا...!!‏

قمت بنسخ البرقية على الورق الطابع، وعممتها على جميع السرايا والفصائل العاملة في الكتيبة والملحقة بها. وشددت في ملاحظة كتبتها في أسفل الورقة. على الاستعداد الكامل للرحيل خلال " 24 ساعة"‏

اتصلت أيضاً بوساطة الهاتف مع قادة السرايا للحضور إلى قا. ك والتشاور معه حول هذا الموضوع.‏

بدأ حيّان يستعد والفرحة تغمره، فجميع السجلات الهامة والسرية للغاية ورتبها في صناديق حديدية وأحكم إغلاقها. رتب معه الفرش والأسرة والبطانيات وحزمناها بصورة جيدة. جمعنا أدوات الطعام والشاي والسكر والملح والبصل والبطاطا ومعلبات من الفول والحمص والبازلاء، وغيرها. وضعناها في صندوقين ننتظر ساعة الانطلاق بفارغ الصبر.‏

كان مساءً حافلاً. كل شيء تغير في لحظة، وماهي إلاّ ساعات ويكون الصباح ويحلّ الوداع. سنة وأكثر تجرعنا فيها الآلام. تآلفنا مع المكان والبيئة والناس أصبحنا جزءاً من الأشياء المحيطة بنا. ومن الصعوبة الآن أن نترك خلفنا برج حمود، وشركة التبريد، ومعمل الحديد وشركتي النسيج والأدوات الكهربائية. أن نترك الجسور ونغادر دون رجعة.‏

تسمّر حيّان ملهوفاً. أُصيب برعشة الفرح والحزن معاً، فهو من جهة سيتخلص من الأعباء اليومية الموكلة إليه، ومن جهة أخرى سيبحث بجدّية أكثر عن حياته ومستقبله. وبين الفرح والحزن تقف عائشة والمنظار والصور الجميلة المرسومة في قلبه. صور مؤطرة بالحب والخوف والمطاردة. هذه أشياء لن ينساها طوال حياته، ستبقى تُعيد نفسها، متجددة، وستظل تجربته، تجربة فريدة في نوعها ودرساً لقّنه حكايات سيحفظها ويتلوها على أبنائه في يوم من الأيام!‏

المساء حافل بالاستعدادات والتحضيرات، وسيكون الصباح تعباً وسفراً ورحيلاً ووداعاً!!..‏

حمل " قا. ك" أوراقه وتعليماته وخريطة بيروت، تركنا متوجهاً إلى سن الفيل حيث " قا.ل"، وستصدر عن هذا اللقاء آخر التعليمات.‏

ليلة حافلة بالسهر والعمل وترتيب الفرش والأسرة. وما إن أشرقت الشمس حتى كانت عناصر الكتيبة جاهزة، والسيارات محملة، والدبابات محمولة والمدافع مقطورة. تقف في المقدمة "البيتيئرّات" والمصفحات والملالات. وفي الخلف سيارات الغاز" 66" وعدد من " التاترات" _ القاطرة والمقطورة-‏

وحسب تسلسل السرايا والفصائل الملحقة " السرية الأولى - الثانية - الثالثة - سرية المدفعية - فصيلة الدبابات - الكيمياء - الاستطلاع - الصواريخ المحمولة على الأكتاف - أجنحة الحماية - المهمات - المطبخ -الإسعاف".‏

أخذت كل سيارة رقماً حسب تسلسل المسير. كانت بداية الرتل عند أول جسر الدورة، ونهايته في برج حمود. وقبل إشارة الانطلاق، اصطف الجنود حسب سراياهم وفصائلهم على جانبي الرتل بلباس الميدان الكامل، يحملون أسلحتهم الفردية، والذخائر متحفزين لكل طارئ.‏

يشوب الانتظار علامات الحذر، خاصة من مفاجأت تقوم بها القوى المناوئة وتُفشل خطة وقف إطلاق النار ويعود القتال من جديد، ولن يكون هذا العمل فيما لو حدث لصالح أي طرف من الطرفين.‏

تأكّدت أن ممثل " الجبهة اللبنانية " تعهد أمام قيادة ضباط الارتباط بأن تسعى القوات المناوئة لتسهيل عملية الانتقال وعدم عرقلة مسيرة وقف إطلاق النار، وفتح المجال أمام القوة البديلة التي ستصل إلى منطقة الجسور.‏

الأعلام السورية واللبنانية ترفرف، مثبته في السيارات، وتظهر الشمس أحياناً، وتغطس بين الغيوم في أحيان أخرى. وكانت السيارة التي تحمل الشهداء في مقدمة الرتل. سيارة مكشوفة فيها توابيت ملفوفة بأعلام البلاد. يجلس حولها الجنود وفوق كل تابوت باقة من الورود البيضاء والحمراء.‏

هدوء قُبيل لحظات الانطلاق. هدوء ساخن وحذر. أحاديث خافتة تحمل لذة الاشتياق. فمنذ أسبوعين لم يتم مثل هذا اللقاء الحميم، لأن العناصر والجماعات منتشرة، وموزعة ولم يتحقق أي لقاء يجمع كل عناصر الكتيبة مرة واحدة.‏

تتدفق بينهم أسئلة وأسئلة بحميمية صادقة وتآلف ومحبة. الذقون حليقة والوجوه تفتح صفحاتها للهواء والانطلاق. الأحذية ملمّعة، وتلمع الخوذ فوق الرؤوس وحربات الأسلحة موجهة نحو الأعلى. كانت اللحظات الأخيرة للتحرك ومغادرة المواقع الساخنة طيّبة وحارة.‏

ولم يُفاجئنا أبو سركيس بقدومه، يحمل إكليلاً من الزهور نسقته زوجه على نحو هندسي. شكلت الأزهار بفنية رفيعة كلمة " الوداع". ويلفّه شريط أسود دلالة الحزن. يحمله طفلان، يمشي خلفهما رجال ونساء من الأرمن، يتقدمهم أبو سركيس وزوجه.‏

كان "قا.ك" يرافقه ضباط من الكتيبة السعودية، يتفقدون المواقع، والأماكن التي سينتشرون فيها، تنقلهم سيارة جيب عسكرية. جولة ابتدأت من البحر حتى برج حمود، مروراً بأطراف منطقة الدورة. ونحن ننتظر وننتظر نهاية الجولة كي نتمكن من التحرك.‏

عشرات العيون تحدّق في الجسور والشوارع المهجورة، والبيوت والمؤسسات المتروكة للريح بعد أن دمرتها وسرقتها العناصر المناوئة، وحرقت العديد من أجنحتها وآلياتها والمواد الأولية في مستودعاتها.‏

وكانت شارة الصعود إلى السيارات صفرة طويلة.. أما الصفرة الثانية فعبارة عن صفرتين متقطعتين.‏

الأبصار الموزعة في كل الأماكن والمنتشرة على امتداد خط الأفق، تتسلل عبر الكوى من الدبابات والمصفحات، وتمّر على بساط الحصى المفروش أمام شركة التبريد، وتقفز بين الحفر وفوقها.‏

ودعنا أبو سركيس بكلمات دافئة ورائعة قائلاً:" عندما أزور عائشة أخبركم عنها كي تطمئنوا وترتاحوا. . أعلم أنها دخلت منذ يومين مشفى البريد، لأن جروحاً بليغة ألّمت بها، وشظايا حادة انغرست في لحمها، ودماء صبغت شعرها، وتركت دروباً جافة فوق نهديها ورقبتها"..‏

يتعالى هدير السيارات، المصفحات. يتصاعد الغبار ممزوجاً بدخان المحركات. وصعدت السيارة الأولى جسر الدورة، ثم تبعتها عشرات الشاحنات والمقطورات والمجنزرات تفتح الفضاء باتجاه طريق نهر بيروت. وفي الاتجاه الأخر من الأوتوستراد كانت القوة السعودية الرمزية تنعطف مع آخر أكواع الطريق، وتنحدر فوق جسر الدورة باتجاه برج حمود. وقبل أن يصل رتل كتيبتنا إلى جسر الموت، ويتجه نحو سن الفيل، توقفت السيارات دقائق. هبطت مجموعة من خبراء الهندسة، يرافقها " رئيس الأركان" وتفحصت الطريق، وفتشت جوانبه على مسافة عشرين متراً بحثاً عن الألغام. ومجموعة أخرى كانت تنقل أكياس الرمل المكدسة في مدخل الجسر ومخرجه والسيارات المعطوبة لتفتح الطريق وتسهّل المسير.‏

لا يستطيع حيّان إلاَّ أن يتذكر. المشاهد المؤلمة ترفع مزلاج باب الذاكرة، فتتدفق صفحات موجعة تحمل المرارة، وصفحات تحمل الجمال. وبرأيه " أن كل هذه الصفحات لا يمكن أن تتكرر ثانية، ولا يتلفها إلاّ الموت. فهي حيّة ووثابة مادام حيّاً".‏

وعند أول الجسر بدأ يهمس في أذني:‏

- من هنا تركت عائشة. من هنا ستعود إن عاجلاً أو آجلاً، تحمل المنظار وبندقية، لكنها في هذه المرة ستضع في فوهة البندقية وردة.‏

- هذا سيحصل فيما إذا تعافت بسرعة ومالت إلى الشفاء. الجرح عميق كعمق نهر بيروت ومن غير السهل أن يلتئم بسرعة. سيظلّ ينزف دماً، ويتقيّح، ما دامت تتحرك فوق السرير، ولم تذعن لنصيحة الأطباء وتخفف من حركتها.‏

مشت السيارات ببطء شديد. الحمل ثقيل، والجسر مخلخل. قواعده مزعزعة، وأرضه غير صالحة تنام فيها آلاف القذائف والشظايا. لانرغب أبداً ونحن في هذه الحالة أن يحدث أي شيء في هذه الطريق الملعونة. يكفينا جرحى وشهداء ودماء وتضحيات، وأيدي جنود مبتورة وأناس يمشون على العكازات، قُطعت أرجلهم، وجنود فقدوا في لمحة بصر. فلا تذكرني ببشاعة الموت. هذا الوحش القادم يتربّص للبشر أينما كانوا في البيوت أوفي ساحات المعارك وفي أماكن العمل وعلى مقاعد الدراسية.. ألا يكفي هذا الخوف! ألا يكفينا ما تهاطل علينا من قذائف ورصاص وصواريخ كلها تسبب الموت.. الموت والحياة قطبان للمسيرة البشرية منذ بدء الخليقة وتعمير الكون. وحياة الإنسان صفحات من التأمل للموت والحياة. مرة يلعن الإنسان الموت، ومرة يلعن الحياة. الخوف من الموت مشروع، كمشروعية الحياة. هكذا هي الحياة، ولكن ألا يودي بنا إلى الجبن والتوقف عن اتمام مسيرة الحياة. هكذا هي الحياة. هذه سنّة الدنيا!‏

تئن السيارات وهي صاعدة في الطريق. نترك على يسارنا الأبنية المنسقة على نحو هندسي من حي " النبعة" ونتوجه إلى سن الفيل. خلفنا ما تزال السيارات تنتقل بخطا وئيدة. . جنود من قواتنا في سن الفيل وقفوا على جانبي الطريق يصفقون لنا بحماسة وترحيب، كأنهم يقولون : " أنتم السابقون ونحن اللاحقون ".‏

الشمس تقف في منتصف السماء. الظهيرة حارة. تتسمّر الأشعة فوق جسر الموت تحمل دفء أنفاسنا، تاركة برودة تشرينية في أجسادنا، وبعض الخيوط الذهبية تنعكس بحب وأمل فوق صفائح السيارات وخوذات الجنود.‏

دائرة واسعة شكلها الرتل أمام قيادة اللواء، حيث الساحة تتسع لآلاف البشر. هبط الجنود من السيارات يفتشون في حقائبهم، وأكياسهم عن " المأكولات. افترشوا الأرض والأرصفة، وفتحوا علب اللحم، والبسكويت، وبدؤوا يلتهمونها بحرية تامة.‏

بينما اختفت الشمس وراء أشجار السرو والأرز، ثم ظهرت وهي تقطع الأبنية القريبة من البحر وتغطس في المياه، فتلوّنها بالزرقة الأخاذة للألباب.‏

تأملت الصور الرائعة. وقفت بجانب حيّان الذي تعافى من الهواجس واكتفى بإشعال لفافة من التبغ العربي. كنّا نتأمل في هذه اللحظات صفحة من الأسرار التي كتمها كل واحد عن الآخر، وكان الأمل يخرج دافئاً مع أنفاسنا ويتسلق دوائر دخان السجائر المتصاعدة. ومع حلول الغروب حلَّ علينا ضيفاً من غير موعد أو إعلامنا، كان الحزن يتدرج ويقطع مئات الأمتار. يشتهي اللقاء معنا، لكن عائشة التي علمتنا كيف نفرح، وكيف نحزن شقّت طريقها، وخرجت من إحدى الزوايا المضيئة، وانهالت علينا دفقات من الذكريات، وكان بداية الصفحة فيها " أبو سركيس". ذكريات تُمطر حُبّاً وصدقاً، وهذه الذكريات من الصعب وضعها في سلة النسيان أو إهمالها، ستبقى خالدة وحيّة تسري في أوردتنا. تأكل وتنام وتشرب وتفكر معنا!‏

أنوار خافتة، متباعدة تكشف بعض أسرار الظلام الذي سرعان ما خيّم فوقنا وأخذ ينسج حكايات الجنّ، يذكرنا بالغولة وحكايات الجدّات والجارات والأمهات. وأنوار معّلقة من رؤوسها على أعمدة تميل مع الريح أوتنصب قامتها حينما نقف بجانبها ونحن على أهبة الاستعداد للانتشار أو الحراسة والرصد والمراقبة. أعناقها وأعناقنا تشرئب إلى الفضاء الرحب ترسم لنا الأفق الذي يصل بين أطراف الشوارع وسطوح الأبنية. يؤشرلنا ويدلنا إلى طريق (جسر الباشا) عبر الأبنية القديمة والأزقة المبلّطة بالأحجار البازلتية، المنحنية والمتعرجة معها.‏

توزعت السيارات في عدة اتجاهات. رافقتها السرايا والفصائل لتأخذ أمكنتها الجديدة في دائرة تطوّق قيادة اللواء.‏

- ماذا يا حيّان؟ هل هي محطة مؤقتة؟ أم دائمة؟ وهل سيطول بقاؤنا في سن الفيل؟.‏

الوهن والتعب يلفان حيّان في هذا الليل. وقف في شرفة مفتوحة تطلّ على جسر الموت. تفقّد النجوم الضائعة. فتش عن القمر المختفي. ظلت غيوم سود تقف كسدٍ في الأفق السابح في سماء بيروت الشرقية. . تتالى مسلسل التمنيات " ربما نصادف غداً " الرنكوسي" ربما يصل الخبر من مشفى البربير، وربما. . بعدها أشياء غير هامة"‏

عاد من الشرفة. جلس بجانبي على أريكة. سألني: أيمكنني زيارة مشفى البربير! ألم يحن الوقت!‏

- أعتقد أن أسئلتك فيها مبالغة. ولا نعرف كيف نصل إلى المشفى! ربما خلال الأيام القادمة نتعرّف المنطقة، ومداخلها ومعابرها، عندئذ نبدأ بالتفتيش، وسنجد السُبل للوصول إليها، والتحدث معها عن قرب، ورؤيتها.‏

- هاجس يراودني، ويهزّ كياني ولا أستطيع مقاومته. أنا يا محمود أضعف من أن أواجهه. أنا جسد ضعيف وروح مرهقة. أشعر أن قلبي أصبح أكبر بكثير مما أتصور. . أسمع دقاته المتراقصة تغني في هذا الليل، وتعزف نبضاته ألحاناً، تذوب في دمائي خلجات محروقة. وسيكون في الصباح حديث آخر وشمس أخرى!‏

-4-‏

في الصباح انقشعت الغيوم عن السماء. بقايا أدخنة تحمل هموم الحرائق والناس، تدفعها رياح خفيفة، توزعها في فضاء سن الفيل. ترتفع وتتعالى ثم تتلاشى.‏

فتحت النافذة كان حيّان يتثاءب. اقترب مني وأشار إلى مكان قريب من موقعنا. .. أرض جرداء، خاوية وممسوحة مثل "الكرنتينا"، فلا أثر للبيوت والحدائق والمدارس والناس، اللهمّ سوى عظام متناثرة دُفنت في أمكنتها ونبتت فوقها الأعشاب البرية. غيرّ اتجاهه وبدأ يتذكر قائلاً:‏

- أتذكر حوادث الموت والدمار يا محمود!..‏

- الذكريات الأولى بعد وصولنا إلى كتف البحر بفترة قصيرة، اشتعلت الفياضية الواقعة على طريق الشام، حين بدأت القذائف ترعد، والرصاص يحصد الجنود في خيامهم، ومما أدى إلى قتل العشرات.. هؤلاء، فاجأوا مجموعة من عناصرنا في ليلة باردة من شهر شباط، ومنذ ذلك التاريخ توترت الأجواء واشتعلت نيران المعارك.‏

- كنت أعتقد مثلك أننا سنتجول في بيروت مُحررين من القيود، وهذا ما حصل خلال الشهور الثلاثة الأولى من وصولنا، وكانت الأمور تسير سيراً طبيعياً. تبدلت مهمتنا ووضعنا في خندق المواجهة ونحن لا نريد ذلك، فقد انتقلنا من المراقبة والفصل بين المتنازعين إلى المواجهة القسرية، وتصاعدت الأجواء، وتعكّرت بسرعة جنونية.‏

- عرفت وتيقنت أن حماية عائشة لن تكون سهلة وبسيطة. تحتاج إلى فنّ في التعامل وفنّ في التفكير، وفنّ في العلاقة مع الناس، وحتى مراقبة البحر برأيي تحتاج إلى فنّ الرؤية.‏

أحضر حيّان القهوة الصباحية، فهو لا يستطيع التحدث أو الاصغاء أو العمل، إلاَّ بعد أن يحتسي فنجانين من القهوة الحلوة، ويدخن معهما سيجارتين من الدخان العربي. يحمل نوعين الأول عربي مرطب وملّبد في علبة نحاسية، والثاني، دخان أمريكي يستخدمه أثناء العمل أوالانتقال والحركة، ويترك الدخان العربي للسهر الطويل.‏

هذه نافذة جديدة يفتحها حيّان في جدار قلبه أرى من خلالها أعماقه الجوّانية قلت: له : اُنظر، ما أجمل هذه المنطقة، وتلك المنحدرات المزروعة صفوفاً من الأشجار وما أجمل هذا التناسق الذي صنعته أيدي الإنسان، وهذا الدوّار الكبير، والشوارع العريضة، وهذه القصور الرخامية ذات السطوح القرميدية.‏

انظر أيضاً هذه الحفر الضخمة، فوهاتها واسعة كبحيرات أو فجوات خلفتها البراكين، وهذه أيضاً صنعتها أيدي الإنسان!‏

تأملّ الطبيعة، وما صنعه الإنسان، العامر بالدفء، والمزدحم بالدمار والخراب...‏

أشرت إلى مرابض المدفعية المواجهة لنا، وإلى الدبابات المسترخية في حُفرها، والرشاشات المنصوبة فوق الأكمات، والحواجز، والراجمات الجاهزة فوق السطوح، والتحصينات والهدوء المخيم، القابل للانفجار في لحظة، وزمور الخطر والبوق الذي يفتح فمه نحونا، وإلى سيارات الإسعاف، والمشفى المتنقّل، وحزمة بيضاء من الأطباء والممرضين، وإلى المطبخ وسيارات الإطعام، والمؤن والمهمات " مدنية بكاملها تضجّ بالحركة". حينئذ، تذكرت الملازم الأول " بركات" عندما أصابت عينيه شظية، وكادت أن تقتلع نصف وجهه الأعلى.‏

مدّ عنقه. طوقته بيدي من وسطه خوفاً من سقوطه من الطابق الثالث. في البناية التي التجأنا إليها والمحصورة بين شارعين فرعيين والمواجهة للشارع الرئيسي الذي يقودنا إلى طريق الشام...‏

هل تتذكر يا محمود تلك الليلة الشمطاء الملوثة بالأنين والوجع والتعب والخوف والجوع؟. الأيام تمرّ سريعة الآن. أجواء هادئة، لكنها مسكونة بالمفاجاة. لا شيء يزعجنا سوى قنصات منفردة تغني وحيدة، ولا نسمع صوتها إلاَّ حين تقترب منّا.‏

تتجمع الأفكار في الذاكرة، هذا الخزّان الذي يتسع لأوجاع جديدة، واحتمالات جديدة لبدء القتال. تمنيات تختال ضاحكة، تدور وتلفّ نسيجها حول جسدينا. أفكار تنقلنا إلى مدينتي دمشق وحلب. لحظات من الوجوم. أسئلة عديدة. . لكن ماذا بعد ذلك ؟! هل ستمتد هذه الأيام وتطول؟‏

أجاب وهو يسرّح بصره مبتعداً عن هذه المنطقة.‏

- أعتقد أنه تجاوز خط التماس وانتقل إلى مشفى البربير، وشكل البياض حاجزاً بين القلب والرؤية. صفحات تعود إليه الآن. صفحات أحلام. تركته ينساب مع أحلامه وآماله، ولا أريد أن أقطع هذا الخيط الحريري.‏

قلت لنفسي :" لا أريد أن أفتح باباً جديداً تدخل منه أوجاع الماضي وآلام الشهور في " الدورة" و"برج حمود"، ولا أريد أن أذكره بحالات الموت البطيء واتعاب الرحيل والنوم على البلاط، وقلة الماء وانقطاع الكهرباء الدائم، والخبز اليابس، والعِشرة الطويلة مع أبي سركيس. سأترك الحرية له أن يفكر وحيداً دون المساس بأحلامه، وقطع شروده بأية كلمة".‏

سأتركه يتجاذب عقب لفافته ويمضغ آخر المجاّت المكهربة، وينفث الدخان. انتقلت إلى غرفة أخرى. عُدت بعد دقائق. أحدثتُ حركة خشنة. التفت إلى الوراء.‏

سألته: ألا ترغب بالتجوال في هذا المساء بين تلك الأبنية. وبعدها نجلس فوق هذا المرتفع بين الأعشاب - ما دام الوضع يسمح لنا؟‏

أريد من أعماقي أن نمشي معاً فوق ذاك الرصيف المحاذي للقصر القرميدي، الذي تحيطه الأشجار الباسقة حتى ولو كانت تحمل ( أطناناً) من غبار الفضاء وغبار القذائف، فهي حتماً حزينة. .. هلمّ يا حيّان. . أسرع. ربما نسمع بعض الأخبار، ونتسلى مع الأصدقاء.‏

وافق بعد " علاج" طويل وأخذ وردّ وأحياناً كان يماطل، لكني سحبته من يده، وهبطنا إلى الشارع المطلّ على ساحة واسعة، وخطواتنا تقيس طول الرصيف.‏

بدا الصمت كجدار يفصل بيننا، ولم نلتفت إلى بعضنا. كل واحد يسرح بأفكار ويمرح كما يريد.‏

بينما كان يدقّق ويتمّعن في القصر الجميل. عيناه تتسمران في منحدرات وانحناءات القرميد الأحمر والجدران الحجرية الناعمة والسميكة، كنت أدفئ روحي باحلام دون وجود معطيات لتحقيق بعضها. " تتلبد بيروت بالغيوم، تتناثر فوقها آلاف الرسائل والتحيات القادمة من بلاد بعيدة"‏

قلت: منذ فترة لم نسافر. هل يطول بقاؤنا في سن الفيل؟‏

أجاب: انتهت الخدمة الإلزامية، ها نحن ندخل الشهر الرابع في الخدمة الاحتياطية وتجاوزت خدمة غيرنا نصف سنة. أنتم صف الضباط تتمنون أن لا تنتهي خدمتكم الاحتياطية لأن رواتبكم تتضاعف. أما نحن أصحاب الرواتب القليلة فلا فرق كثيراً عندنا.‏

- هذا جانب صحيح لأني وخلال هذه الفترة القصيرة من الاحتياط تخلصت من ديوني المتراكمة منذ سنوات.‏

عُدنا إلى الغرفة. الليل يمتد فوق الساحة الكبيرة. برودة ونسائم خريفيان تلغماننا، وتهزان الأشجار. قنابل مضيئة تتراءى من بعيد قادمة من الضاحية الجنوبية.‏

تدور حول طريق الشام. أغلقت النوافذ. أشعلت شمعة طويلة وجدتها فوق رفّ المطبخ كانت من مخلفات الكتيبة التي حللنا مكانها.‏

ينتقل حيان من غرفة إلى غرفة، ومن شرفة إلى شرفة. لايهدأ أبداً.يراقب ظهور القمر والليل والسكون. يزرع أشجانه وآماله. بعضها ينبت، وبعضها يندمل في الأرض. ولا يعكرّ صفاءه إلاَّ الأحلام المغلّفة، والأحلام المغلّفة في ومضات من الألم. ولم تتعكر حياته في هذين الشهرين إلاَّ بعد أن لامست أصابعه دفء جسد عائشة، خاصة بعد أن طبع قبلة على شفتيها وقبلتين على جبينها. شعر آنذاك بالحب الحقيقي، وشعرت عائشة بأنها فتاة تستحق هذا التقدير. تلّمس شعرها المنثور، المفتوح فوق كتفيها دون رقيب، فشعرت في حينه بأنوثتها وإنسانيتها.‏

حان الوقت للنوم، ولو أنه لا يطيل الأعمار. ورغم الأنين الداخلي غير المسموع الذي يسرق أحلامه المتحركة، ابتسم، ابتسامة نائم. شعرت أن التفاؤل يشق طريقه في درب جديدة، وأن خطة يرسمها في ذهنه وقلبه، وسينفذها في الأيام القادمة.‏

ومن حقي الآن أن أبحث عن سبب هذه الابتسامة، وفي هذه الليلة، مقارنة مع الأسابيع الماضية. فهمت الدافع. استدركت أنه قبل أن يلقي رأسه على الوسادة أخرج قطعة من تحتها، قبّلها مرتين ووضع كفّه تحت رأسه ثم أطبق جفنيه. كنت أراقب حركاته.‏

أفتح البطانية بهدوء، وأشم رائحة عُطرٍ نفثت في جو الغرفة أريجاً.‏

وحين أخرج صورة عائشة بخّ عطراً عليها من زجاجة أسطوانية لها بخاخ.‏

عطر جيد وغالي الثمن. تصاعدت أنفاسه. وبدوري انسحب نحوي القلق وتسمّر أمام مقلتيَّ،، وأنسابت الذكريات وتقاطرت بهدوء. نقلتها أمواج الهواء متجاوزة الجبال والأودية والحواجز، وقفزت فوق المناطق الحُمر والجسور، فأخذت تهز أوتاري المربوطة بين الأوردة، وفي قلوب الأعزاء الذين يجلسون قلقين وينامون على الفرش كأنهم يتقلبون فوق الجمر، وعيونهم تغرورق بدموع القلق.‏

لا أدري كيف دخلت هذه الأفكار إلى رأسي، وكيف خرجت! فكرة تجرّ فكرة. أدخل في طريق وأعود من طريق آخر. أتمسك بحبال. أتسلق جبلاً وأدور، أُعيد تواريخ هذا العام المزدحم بعشرات ومئات الحوادث الرطبة والجافة، المحزنة والمفرحة. ثم تجاوزت القلق وتجرأت قائلاً: " لا تحزن. لا ينفعك التأمل، ولن تجد العلاج. اطرد الأفكار الغريبة من رأسك. تأمل الشروق ولا تجعل عواطفك تسبق عقلك".‏

أعلم أن التمتمات الجوّانية لا تجدي نفعاً. الصياح، وتفجير كل الأشياء المحبوسة بصوت عالٍ تتقاذفه الجدران الأربعة أفضل بكثير، لكني لم أجرؤ رغم محاولاتي المتكررة ولم يخرج صوتي من أية نافذة.‏

شخير حيّان يخبو، وينهض، لكنه بعد هذا الصعود عدّل نومته، وانقلب على جنبه، ولم أعد أسمع سوى صوتي، وأصوات هواجسي الجاثية في داخلي.‏

توقفت أمام باب مشفى البربير علّي أُبصر عائشة وأشاهدها وراء الزجاج ملفعة بالبياض. تحمل المنظار. تخترق أبصارها الجدران. تصوبه إلى سن الفيل، لكن الحراس منعوتي، وقالوا : " لم يحن موعد الزيارة! هنا بيروت تنزف. لم تشف بعد. ماذا تريد منها؟ عاماً كاملاً وأنت تتنقل فوق جسدها!"‏

أسمع صوتاً يناديني من بعيد. يترنم قلبي لصداه.. أجبتُ الحارس:‏

لا أيها الحارس إنني أتمرّغ في أوحالها. أنتم الذين جلبتم العار إليها. كان جسدها غضّاً نديّاً، ناصع البياض، وشعرها يسترسل ناعماً، يهبط حتى أسفل ظهرها. أنتم الذين حملتم المقص، وبدأتم تجزّون هذا الشعر الخرنوبي، ولولا مقصّكم لما كانت هذه الشواطئ يتيمة وحزينة تندب رذاذاً مُرّاً. وهذا الرذاذ المتناثر يغسل وجوهكم، لكنه لم يستطع أن يمسح العار عن وجهها. اسمح لي أيّها الحارس أن أرى وجهها ولو مرة واحدة، فمنذ شهرين لم أراها. كدتُ أضيّع بعض ملامحها وأتوه بين تجعدات وجهها وجبينها، لكني حين أتذكر حاجبيها الموصولين وأتفقد المنطقتين الممتدتين إلى الشرق وإلى الغرب من قلب العاصمة، أشاهد خطاً، تسمونه خط التماس يفصل بين الحاجبين.‏

لماذا تضعون المتاريس، وترفعون الستور الترابية وتحفرون الخنادق في جبينها؟ لماذا تتجمع وترتفع أكياس الرمل وتتحلق، متراصفة، تتخللها كوى ومنافذ للرصد والرؤية وإطلاق الرصاص. تمتد منها نحو الفضاء سبطانات الأسلحة الخفيفة والمتوسطة؟ لماذا؟ لا تصوبونها وتوجهون راجماتكم ومدافعكم التي تقصفنا إلى قوات المارينز، الآخذة بالقدوم إلى شواطئ بيروت؟ لماذا لا توجهونها إلى الخاصرة الجنوبية الجريحة؟.‏

إننا قادمون ضيوفاً إليكم نبتغي أن يبقى هذان الحاجبان متصلان مع بعضها ونزيل الغبار المتراكم بينهما حتى أوشك أن يتحول إلى تلال من الفرقة و الكراهية، نزيله ونمسحه بمناديلنا البيض. لا نريد أن نجرف صخور أرضكم ونقطع أرزاقكم مهمتنا أن لا نقطع. مهمتنا أن نزيل الستور الرملية ونفتح البوابات على مصاريعها.‏

صمتَ الحارس لحظة ثم قال: أسلحة المنطقة الشرقية هي التي قصفت مشفى البربير وكادت عائشة المستلقية فوق سريرها في قبو تحت الأرض، أن تُصيبها الشظايا. أكياس الرمل المرتبة فوق بعضها، والمبنية كجدار بناء، شكلت حماية لها.‏

هل تسمع أنينها؟‏

أسمع. . اسمع، لا تتنفس! اقطع نَفَسك ثانية واحدة.‏

وعندما ضبطتُ أنفاسي لبرهة قصيرة كان الأنين مترافقاً مع نزف الجراح. كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحاً، وأنا أتقلّب على ظهري وجانبي، علّي آخذ إغفاءة، فالوهن والإرهاق أتعباني.‏

تتسلل نسائم لطيفة تحمل رائحة البرد تنقل إليَّ صفاء الفضاء، ونداوة الليل. وتُقبّل حزم الضوء بلّور النافذة. تدقّ عليها دقات خفيفة، بينما كان حيّان يتثاءب، كانت الشمس تبزغ من الأفق، تكسو أحلامنا دفئاً وجمراً. لم أصحُ. إلاَّ على صيحات الحراس، وطقطقة الطناجر والصحون، وهدير محركات السيارات.‏

تركتُ حارس المشفى يراقب الطرقات، أغلقت الأبواب والنوافذ والشقوق التي تسرّب إلي همسات الأحلام ووشوشاتها. نهضتُ مع الناهضين، وحين نظرت عبر الزجاج، كانت الساحة تعجّ بالجنود والشاحنات والحركة والأصوات.‏

تتحرك الدبابات إلى الأمام تارة وإلى الخلف تارة أخرى دون أن تبرح حُفرها. وخلف مرابض المدفعية كانت الطواقم تنظف السبطانات وتحضر صناديق الذخائر. خلف الأبنية عناصر من المجندين وصف الضباط والضباط. انطلقت صافرة طويلة. أخذت الأبواق المنصوبة على القصر القرميدي تهدر وتجعر بأصواتها، وتدوّي، تصل إلى أعماق العاصمة. تحركت سيارات الإسعاف. هبّت مندفعة كالريح من مخابئها، تركت ظلّ الجدران. أما الأشجار فبقيت منتصبة القامات وعلى أنساق، مصفوفة كأنها عرائس في ساعة الزفاف، أعناقها مرفوعة، تراقب الشوارع والأبنية وحركة العناصر والناس.‏

تأبّطت خريطة بيروت المحملة بالخطوط الحمر والزرق. دققتُ في جميع المواقع القديمة والجديدة. مررت إصبعي فوق جسر الموت ثم مررته على جسر الدورة وبرج حمود.‏

هبطتُ السلّم إلى قبوٍ، دخلت إلى غرفة العمليات الحربية فكان القادة، من المراتب العليا، ورؤساء أركان الكتائب، وقادة السرايا والفصائل المستقلة، يتحلقون حول طاولة مستديرة وكبيرة. بعضهم نزع الرتب، وآخرون وضعوا خوذهم النحاسية بجانبهم.‏

تقدمتُ. . فتحت خريطة بيروت. تراجعت إلى الخلف خطوة. راقبت الموقف العسكري الجديد بصمت دون أن أنطق كلمة واحدة. استمعت إلى أحاديثهم، وخططهم، والمناقشات الدائرة حول الخطة.‏

حمل حيّان المنظار الجديد. وقف في زاوية دون أية حركة. في البناء العالي يراقب ويفتش طيّات الفضاء. يبحث عن أشياء تنبئ عن رعود وبروق قادمة. وعن أمطار تغسل الأحزان وتمسح الأوجاع وتطهرها، وتزيل الآلام.‏

قال " قا.ك" : قواتنا كثيفة في سن الفيل، وتضم كل أنواع الأسلحة، والاختصاصات، والاحتياطات الضرورية. ووصلت قوات مساندة من بيروت الغربية.‏

تناول جهاز اللاسلكي، أبدل الموجة. وجّه نداء إلى قادة السرايا والفصائل، وأصدر التعليمات بالانتشار وتوزيع العناصر حسب موقع كل سرية وفصيلة. ركزّ معظمها في الجهة الشرقية خوفاً من تسلل عناصر من القوى المناوئة، من حيَّ النبعة، والغدر بقواتنا. وأما سرايا الدبابات والمدفعية فأوعز إليها بأخذ مواقعها وراء القصر.‏

قال مطمئناً " لن يطول بقاؤنا أكثر من شهرين. وفي أوائل الشتاء ستتم عملية التبديل". نقلت هذا الخبر إلى حيّان ساخناً، لكني لم أجده في مكانه المعتاد، بل وجد مكاناً أفضل في الزاوية الشمالية. ثبّت يديه جيداً. وجّه رأسه إلى برج حمود معتقداً أنه سيرى أبا سركيس بهذه السهولة يرش الورود بالماء وتموء القطط في باحة الدار، وما دفعه إلى هذا الاعتقاد، عدم وصول أي خبر منذ الرحيل.‏

لا أريد أن أفتح طاقة جديدة في قلبه. تركت الوجع منسيّاً في حفرة صغيرة. أمات نبضة فأخذ مكانها هناك على جانب درب تصل بين الرأس والقلب. ولا أعلم إذا كانت أحلامه تقترب في تلك الليلة من هواجسي.‏

فوجئ حيّان بالأخبار الجديدة. بدأ صبره ينفد. شتم الحياة. تطاير لعابه مع دخان سيجارته. هدأته روضت أعصابه. أكدت له، أن الاحتمال الأول هو التبديل والاحتمال الثاني، وهو الأضعف استمرار القتال.‏

وحينما سمع بما جرى لي في الليلة الفائتة مع حارس" البربير" كادت عيناه تقفزان من محجريهما، ويسقط المنظار من يده. تركته يتساءل عمّا يجري وما مدى صحة هذه القصص والأقاويل!‏

- لا أصدقك يا محمود! إنك تعاكس الأحداث. وتعكسها لي مكثفة. الأمور تتعقد أكثر من الأول، خصوصاً بعد قدوم " المارينز" والتهديدات الأسرائيلية، ونواياها الخبيثة في شن هجوم كبير، واقتحام بيروت. والتطورات الحاصلة مؤخراً في دول أوربة الغربية، وجولة " البابا" الطويلة في عدة بلدان واللقاء المرتقب مع زعماء حزبي " الكتائب" والأحرار". كل هذه التطورات المكوكية تدفعني للاعتقاد، بل للجزم، بأن عودتنا إلى سورية ليست بهذه السهولة والسذاجة. سنبقى هنا أو ننتقل إلى مكان آخر من بيروت الشرقية. فالأوراق السياسية اختلطت مع بعض، وتستمر المشاحنات والتهديدات. والأهم من هذا وذاك أن عائشة لم تتعافَ. مرضها معقّد وجرحها عميق، وهذه المدة غير كافية لالتئامه.والعلاج المقدّم لها علاج مؤقت، إنها مسكّنات يا محمود! أقراص تهدئ الأوجاع وتخفف الآلام، وما إن ينتهي مفعولها تعود إلى ما كانت عليه. ولا يتم الشفاء التام إلا بعد إزالة الأوجاع وتطهيرها من الآلام. وإذا أراد أي طرف من الأطراف المتقاتلة، عليه أن يضع إصبعه مكان المسامير، ويلمس إكليل الشوك فوق رأسها.‏

انسحب حيّان إلى الداخل. بقيتُ أفكر وحدي في مغزى حديثه. أنظر في البعيد البعيد، أوزع بصري، أشتته وأقفّز فوق التلال والطرقات ورؤوس الأشجار الممتدة خلف الأبنية.‏

لحقت به بسرعة حين اصطدمت طلقة سامة بحافة النافذة العليا فكّرتُ بما حصل، ما سيحصل، وهل ستكون هذه الرصاصة بداية للقتال؟‏

أعرف من تجربتي أن البدايات قذيفة مدفعية أو قنصة. وكان هذا الأمر شائعاً في الماضي القريب، وسيتكرر الآن. وهذا القنّاص رصد تحركاتنا وأراد مداعبتنا ممازحاً بندقيته أو مغازلتنا في هذه الظهيرة، وهو متأكد أن هذه الطلقة حتى ولو قتلت أحدنا لا يخسر شيئاً، ولا تسبب له الأذى، والانزعاج، وهو أمر عادي جداً في الحرب اللبنانية الأهلية.‏

لاحظ حيّان اصفرار وجهي، فقدّم لي كأساً من الماء، وبينما هو يحدّق إلى جلد وجهي. كانت محركات الدبابات تهدر وتنفث دخاناً كثيفاً، وغباراً، من مكان بعيد. عرفنا أن عملية عدوانية نُفذّت ضد أحد حواجزنا على طريق الشام، وقُتل فيها ثلاثة عناصر، وأعُطبت سيارة مدنية كانت تعبر الطريق في تلك اللحظة.‏

ظلّ أمران يشغلان تفكيرنا، الانتقال إلى مكان آخر أو التحرك النهائي، وإجراء عملية التبديل. وفيما كان حيّان يدبّر أمور الغداء، كان الحاجب يحمل معه رزمة من الأوراق والمصورات الصمّاء لبيروت. قال، قبل أن يسلمني الأوامر والتعليمات " سينتقل مقرّ " قا:ك" إلى بناية أخرى" وأشار إلى جهة معينة وما علينا إلاَّ الإسراع بجمع الأسرة والفرش والبطانيات، والتعليمات والمصنفات لكننا تأكدنا أن احتمال تجدّد القتال غير وارد خلال الأسبوع القادم!.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
boudjemaa fathi khalloul
عضو جديد
عضو جديد
boudjemaa fathi khalloul


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 78
نقاط : 10188
السٌّمعَة : 2
سجل في: : 05/03/2011

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالثلاثاء 22 مارس 2011 - 12:35

-5- عائشة فوق جسر الموت

ممر مشفى البربير طويل. مرآتان متقابلتان، مثبتتان على الجدارين النظيفين.‏

تركن غرفة عائشة في نهاية الممر. فيها سرير واحد وطاولة، وثلاثة كراسي مدهونة باللون الأبيض. ستارتان شفافتان، وخزانة صغيرة بجانب السرير.‏

لملمت عائشة نفسها. جلست. شعرت بقوة تدفعها للنهوض. ترتدي ثوباً طويلاً رقيقاً، يظهر القسم الأعلى من ثدييها. ذراعان عاجيان، كرخامتين مصقولتين. ساقان منسقتان مغريتان.‏

وقفتْ. مشتْ. تدرّجتْ في الممر. حدّقت إلى المرآة. حُوصرت بين مرآتين وجدارين. البلاط الذي تقف عليه يلمع، كماسة مصقولة. صورتان واحدة للواجهة الأمامية والثانية للواجهة الخلفية. الشاش الأبيض يلفّ جسمها. رأسها معصوب. بقايا دماء جامدة، متيبّسة.‏

تحسستْ فخذيها ويديها وبطنها وظهرها. اقتربت من المرآة أكثر. أضاءت شمعتين تقفان كشاهدين على زاويتي المرآة من الأعلى، مثبتتين على صحنين صغيرين مجوّفين. مسّدت بإصبعيها حاجبيها. كل شيء كما هو وعلى وضعه السابق، سوى أن الشكّ تموّج في داخلها على شكل أسئلة باردة وحيرة.‏

عادت إلى غرفتها. تسندها ممرضة. ألقت جسدها فوق السرير وطلبت من الممرضة أن ترفع القسم الأعلى من السرير، ففعلت، وارتفع معه القسم الأعلى من جسمها.‏

وكررت طلباً ثانيا بنقلها إلى الطابق الأول بعد أن اطمأنت على توقف القتال واستمرار وقف إطلاق النار. لم تسمع منذ أيام أصوات قذائف. أصوات أخرى لمصابين بجروح. أنين ينزّ ويندفع متخثراً كدمائها في الغرف المجاورة لغرفتها.. وجثث محمولة على نقّالات إلى غرفة "عزرائيل" أو تخرج منها، وتنقل إلى سيارات إسعاف. لكنها لم تعرف المكان الذي تنقل إليه " هل إلى المقابر أم إلى المشرحة؟"‏

همسات تحثّ خطواتها متسربلة في عروقها وأوردتها:" تحولت حبيبتي بيروت إلى مدافن. ازدحمت المقابر بالأموات. قلبك يابيروت حفرة تتسع لألوف الناس. تتسع للأموات والأحياء المختبئين والصامتين والهاربين والجائعين" البحر هائج. تُصغي عائشة إلى ارتطام الأمواج بالصخور. " تمنّت لو أنها تقف على صخرة من صخوره. تترك بصرها يسبح مع الجثث الطافية على سطحه، وبقايا ثياب ممزقة. وفوارغ قذائف، وأخشاب ورؤوس أطفال ونساء، وبذلات عرائس بيضاء. ورود ذابلة، وأحلام معصورة أو مطحونة من القهر والجوع والعري واليتم.‏

أحلام سوداء، عرجاء، عوراء، وقرود تبكي من الجوع".‏

ممرضتان تتساعدان في وضعها على نقالة. تلتصق النقّالة بالسرير. تستلقي على جنبها، يحملها مصعد عاد إلى العمل بعد إصلاح محرك الكهرباء. هواء لطيف يندفع من مدخلي الممر المواجهين لبعضهما. تنتعش قليلاً. يتحسّن وضعها. طموحات تدور وتتحرك في رأسها وأمام مقلتيها. أمنيات تعود مشدودة بأحزمة مطاطية كي لا تهرب. تبحث وتفتش عن جسدها الضائع وعن جسر الموت. اُمنيتها أن تقف ولو مرة واحدة فوق هذا الجسر، لأن بقايا دماء نازفة تركتها هناك. جراحها هناك. وقُبلاتها هناك...‏

لم يحن الوقت بعد لمغادرة المشفى. الجراح طريّة، واللحم مهترئ والشعر دبق تكسرّت فيه أمشاط من العظم والمعدن. مَنْ يشفق عليها ويخطفها، مَنْ يوقع على أوراقها ويطلق الحرية لها. تريد أن تترك المشفى للآخرين. لم تَعُد بحاجة إلى الأدوية والمعالجة. ستبحث عن ساحرة، مشعوذة تبخّر لها. كرهت روائح الموت والأموات والأدوية والعطورات والمناظر المؤلمة وغرف العمليات والإسعافات، والألوان الرمادية والزرقاء. شاشة واحدة بيضاء تساوي آلاف الجراحات وآلاف القذائف. صورة تُؤخذ لها، تلتقط كل تفاصيل جسمها أفضل من الكرة الأرضية. صورة للذكرى ستحنّطها في قلبها، سترفعها في تظاهرة كشاهد على مايجري في عاصمة السواحل.‏

ستقول للعالم : هذا أنا! عائشة المؤجرة بنت الجبل رهينة. كفى تدنسونني وتدوسون بأحذيتكم الثقيلة على روحي. كفى أيها الطامحون إلى المحبة، كفى أيها السارقون ذبالة جسدي.‏

كفى أيها الحقير، ابن المعلم، كفاك تمزيقاً وتفتيتاً ورعونة. ألقوا ألغامكم وقذائفكم في البحر. كفى دموعاً على بيروت. فالتماسيح تبكي. دموعكم كدموعها، مالحة لزجة مميتة.‏

اليوم صممت عائشة أن تخرج لتحطّم المشاهد اليومية المؤلمة، وأن تنزع من قلبها زخات الأوجاع وغصّاتها، أن تبحث عن أحّبتها " حيّان - أبو سركيس - أم سركيس- الورود والأزهار - وعن القطتين"‏

تعثرت أفكارها وتصوراتها وأحلامها وهي تمرّ في درب تأملاتها بأبي شاهين يدخل مرتدياً ثوباً قذراً، يحمل رائحة أنوثتها.‏

انسلّت. . خرجت. . سرقت خطواتها في الهدوء، قبيل طلوع الشمس ورؤية الغيوم والسماء والضباب. مشت نحو خط التماس مسافة طويلة تركت فوق سريرها ورقة وجملة واحدة بخط كبير" سأعود مساء لا تقلقوا"‍‍‍‍‍!!‏

الشوارع تغصّ بالناس وألوان ثيابهم والسيارات، تزدحم الأسواق بالسلع والخضراوات. كلما قطعت عدة أمتار تتوقف بجانب حائط، تسند ظهرها إليه، تتكئ على عكازاتها. تضع يدها فوق مقدمة سيارة واقفة على قارعة الطريق، تتفحص الأشياء‏

تُعد الطلقات والكوى المفتوحة في الأبنية والسيارات المعطوبة. تحملق إلى الأطفال والصبايا والشباب، والنساء اللواتي يحملن أكياس المؤونة والخبز وصفائح المياه" وبيدونات " الكاز والبنزين.‏

أرتال بشرية طويلة وتطول. تبدأ من أول الشارع حتى بوابة المعبر. تتوضع على جانبي خط التماس الستور الترابية وأكياس الرمل ومساند الحماية.‏

وصلت إلى خط التماس تلوك أوجاعها بصبر. وقفت في أعلى كومة. ساعدها بعض العناصر المسلّحة حتى وصلت إلى قمة التلة. وجدت كرسيّاً صغيراً. جلست فوقه، مُتهالكة. تنفست وارتاحت قليلاً بعد هذا المشوار. أخذت تتحسر، لكنها لم تبكِ في تلك اللحظة. لأن الوقت الآن ليس للبكاء والندب. الوقت الآن لرسم صورة شاملة تُعيد إلى قلبها الأمكنة الجميلة، وشاطئ البحر الذي تركت فيه حُلماً وُلد صغيراً، وكان آخر الأحلام الدافئة. أطلقت رشات من الكلمات، وجملاً تعتصر مرارة.‏

كأنها تُلقي خطاباً أو بياناً مُخاطبة نفسها" بيروت تصرخ من الجانبين. محراث الموت شقَّ أثلاماً في جسدها. يرصد الموت الشواطئ. تمتلئ الموانئ بالأسلحة والمخدرات. أفاع تطوقها، وتحمل البواخر المغادرة ميناءها، أبناءها، تنقلهم إلى شاطئ عالم آخر أكثر أمناً وسلامة. تسبح في بحرها طرّادات قادمة من الجنوب والشمال. تحتضن صخورها زبداً ملوثاً" ثم حملت منظارها، ربطته إلى رأسها ربطاً جيداً، ووقفت فوق التلة تخيط في هذا الصباح ثوباً لجسدها.‏

أرادت أن تلملم وتجمع نتف اللحم المختلط بالتراب وأن تحفر درباً جديداً لكنها نزلت حين رأت أدخنة تتصاعد من الأبنية. سمعت أصوات طلقات نارية وانفجارات. كانت تنقل قدميها ببطء. تغزر عكازاتها أمامها خوفاً من لغم ينفجر، يسحقها وينثر عظامها ولحمها، يقطعها إلى نتفٍ.‏

سارت في محاذاة خط التماس. رافقت جميع الدُشم. سلّمت على جميع الناس الذين صادفتهم في طريقها. لم تكترث وتهتم بمهازل المسلّحين ونكاتهم المريرة.‏

هزأت من تهديداتهم وتوعداتهم، لأنها تدرّبت على القتال ومواجهة المصاعب وأتقنت فنّ المواجهة.‏

تقترب شيئاً فشيئاً من بوابة المتحف. قالت لأحد الحراس الذي طلب منها إظهار بطاقتها الشخصية: ممزقة كجسدي. معطوبة. ضيعتها منذ زمن. أنتم المسئولون عن ضياع هويتي وطمس ملامحي وإهلاكي وتشردي وسحقي. أسلحتكم هي التي أفرغت قذائفها في جسدي، وأشعلتم النيران فيه، فذاب لحمي وتحطّمت عظامي.وقذارتكم لطّخت ثيابي ولوثتها بالدنس... هُمْ. .هم. . هؤلاء الذين لا أعرف أين يكونون الآن. . هؤلاء. . حيّان ومحمود و" قا.ك" والعشرات والمئات الذين أتوا من أماكن بعيدة وأنقذوني. . أنا طلبت منهم ذلك. ولولاهم لم أكن حيّة إلى هذا التاريخ.‏

اتركني في سبيلي، تائهة، وما شأنك ببطاقتي الشخصية. أنت تعرفني وأعرفك منذ آلاف السنن، تأكل وتشرب وتجوب جسدي طولاً وعرضاً، والآن تتنكر للجميل!‏

ها أنذا أقترب من جسر الموت، سأقف فوقه وأفك رباطات رأسي وخصري وأرفع الشاش الأبيض لماذا توجه إليّ السلاح؟ لماذا تصوّبه إلى رأسي؟ ألا يكفيني تمزّقاً وتشتتاً وجوعاً وحرباً!!..‏

تابعت تتمايل وتترنح. تضغط على عكازاتها حتى وصلت إلى الجسر، ولم تزعجها المناظر والصور لأنها ستعيد المحبة إليها وترممها كي تحيا من جديد صورة الجسر هي هي لم تتغير. وجهت منظارها إلى سن الفيل، عبر الطريق الصاعدة. هبط بصرها مع الطبيعة وبين الأبنية والممرات الضيّقة. خلعت المنظار. سبح تفكيرها وتموّج في فراغ نهر بيروت الجاف. لم تقدر أن تلمس جوانبه الأسمنتية الناعمة. تجاوزت العقبات والصعوبات، وحيدة في تلك الظهيرة.‏

نسيت أباها الذي باعها كخادمة. أجرّها بمبلغ زهيد من المال يدفعه " المعلم" كل سنة إليه. ومنذ سنوات وقبل حرب السنتين لم تره ولم تسمع أخباره وأخبار أُمّها وأهلها وأقاربها لكنها وجدت في حيّان الذي يحمل رائحة الوطن وأهزوجه الأرض ملاذاً تحتمي به.‏

قلت : أنت ياحيّان هادئ على غير عادتك: أين منظارك. ابحث في جوفه عن آثار خلدت إلى روحك وأنعشتك في فترة ما. الزمن يتحرك وأنت لم تخطُ خطوة واحدة نحو المستقبل. كأنني أرى في ملامح وجهك أساطير وتاريخاً وتراثاً. . وأرى أجواء جديدة تحمل الضباب وبشائر غير سارة. أظنّ وكما كنت تردد " بعد الهدوء يحدث الانفجار"‏

دبّت الحماسة فيه. تناول منظاره وجّهه كمدفع إلى جسر الموت، كأنه يرسل من قلبه موجات الوداع. يعتقد أن أملاً مهاجراً إلى مكان مجهول، احتضنته الأوجاع والأقبية الرطبة.‏

قطع حيّان سُرّة حلم فانفلتت، وسالت دماؤه. حلم تحجرّ في ذاكرته.. اثنان يودعان مكانين وقلبين وروحين. لم يبق إلاَّ هذا العناق البعيد بين منظارين وعيون. وحزن يرافق عائشة في طريق العودة إلى آخر ملجأ فيه بعض الأمل، فيه بقايا أنفاس دافئة.‏

أرادت أن تكون صادقة في مواعيدها. أدارت ظهرها للنهر. بدأت تجرجر جسدها باتجاه بيروت الغربية.‏

هزأ حراس بوابة المتحف منها ومن مشوارها وأفكارها وأحلامها، حطموا منظارها وكسّروا عكازتها، ومزّقوا بطاقتها الشخصية. رفسوا بأحذيتهم كل الأشياء الجميلة واستمروا يعضّون لحمها بأنيابهم، ويلحسون دماءها بألسنتهم، وكانوا يقولون لها: " لا تتعبي نفسك وتجهدي روحك. نحن باقون هنا رغماً عنك. سيظلّ قلبك مقسوماً فلقتين، واحدة للشرق، وواحدة للغرب. وفي خاصرتك غرسنا حربة، وقطعنا وردة، وسنشعل النيران في بقايا هشيم على أطرافك".‏

سخرت منهم. أجابتهم بصلابة. غرست في حلوقهم أشواكاً. فانتفضوا في وجهها واستمرت في مواجهتهم قائلة:" سيأتي اليوم الذي تزول فيه جميع الدُشم والستور الرملية وحواجز الأتربة وتفتح بوابة العبور بين قسمي بيروت، وتندلق مياه البحر على وجوهكم، ويعبر الهواء من الشرق إلى الغرب وبالعكس، يحملكم كنفايات ويلقيكم في جوف الصحراء".‏

وفيما كانت تدخل غرفتها في المشفى. تنتظر الممرضة عودتها بلهفة وقلق، كان الحاجب يحمل أمراً جديداً يقفز فوق الدرجات مسرعاً.‏

في هذه المرة تعالت ضحكاتنا، لأن ساعات الصباح الأولى، ستكون محمّلة بمشقّة الطريق الواصلة بين "جسر الباشا و " الفيّاضية" صعوداً فوق طريق الشام. . " بحمدون" و " صوفر". . إلى ضهر البيدر..‏

فرحة لا تُباع ولا تؤّجر، لكن بعض الحزن مازال يعشش، لأننا تركنا قلباً خسر عشرات النبضات. . تركنا جرحاً مفتوحاً للشمس والريح، يعود إلى الالتئام. . ورغم العتمة ظلّ الأمل يكبر ويكبر في قلوبنا...‏

لن نتركها وحيدة، جريحة، مريضة. سيأتي اليوم الذي تتعافى فيه. وتعود صحتها إلى ما كانت عليه. ستمشي وتخلع قفازات الشاش. ستمشي على قدمين سليمتين، وتبدأ بوابة قلبها تشرّع مصراعيها لجميع اللبنانين والناس والأصدقاء والزوّار.بوابة مفتوحة على جهات العالم الأربع، تنثر الزهور والورود عطرها، زهور مغسولة بالروائح الطيّبة طاردة مناظر الموت والدمار والجنون.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://boudjemaafathi.page.tl
زائر
زائر




جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالإثنين 28 مارس 2011 - 22:31

Thanks3
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
asma rihem
عضو ذهبي
عضو ذهبي
asma rihem


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 4202
نقاط : 15184
السٌّمعَة : 21
سجل في: : 03/12/2010
الموقع sètif
وسام : وسام الحضور الدائم

جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Empty
مُساهمةموضوع: رد: جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو   جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو Icon_minitimeالسبت 14 مايو 2011 - 14:16

مرسي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
جسر الموت - باسم إبراهيم عبدو
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات أبو الحسن التعليمية :: منتدى الأدب و الشعر ::  الروايات -
انتقل الى: